توقيت القاهرة المحلي 13:53:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

خَطٌّ أحمر

  مصر اليوم -

خَطٌّ أحمر

بقلم : بسمة عبد العزيز

 خطٌّ أحمر. تعبير قصير، شائع الاستخدام في اشتقاقات مُختلفة ومَواقف مُتباينة. في سالف الزمان، كانت الأرضُ على سبيل المثال خطًا أحمر؛ لا يُفرِّط فيها إنسانٌ، صيانتُها واجبةٌ مَهما كان الثمنُ الذي يدفعه صاحبها؛ مِن مالِه وصحتِه أو أمانه الشخصيّ، والموتُ دونها شرفٌ. يُجِلُّ المُجتمعُ مَن يدافع عنها ويحميها، ويحتقر مَن يُساوم عليها أو يتنازل عنها. كانت القدسُ تاريخًا وترابًا بمنزلة خطٍّ أحمر؛ لكن اختلاف الأزمنةِ غَيَّر على ما يبدو الألوان.

الأحمر لونُ الخطر؛ لونُ الدماءِ والشراسة، وقد جرى العرف في ساحات السياسة على استخدام ”الخَطّ الأحمر“؛ تهديدًا ووعيدًا، وحين لم يعُد الخطُّ الواحد كافيًا، تحول سريعًا إلى خطوطٍ كثيرة، ترسم للناس ما يُقال وما لا يُقال؛ تُنبِّه إلى ما قد تغُضُّ السُلطةُ طرفَها عنه وتتجاهلَه، وما لا يُمكِن أن يمُر عليها مُرور الكِرام.

في عهودٍ سابقة كانت الخطوطُ الحمراءُ مَعروفة مُحدَّدة، تَجَاوُزُها يَستجلِب صورةً مِن صور العقاب، والالتزام بها يُؤَمِّن صاحبَه ويضمن سلامَته. خطوطٌ مُتَّفقٌ عليها، يُدركها الجميع، كما يدركون على وجه التقريب رَدَّ الفعل إزاء طَرقِها؛ طرقًا خفيفًا لينًا، أو خَمشها وخَدشها، أو حتى كسرها.

تُقرِّر قوانينُ الطبيعةِ أنَّ لِكُل فِعل ردَّ فعل، مُضاد له في الاتجاه ومُساو في القوة؛ لكن سقوطَ المبادئ والخطوط والعلامات، وتفتُّتِها، وانهيار ما تَعارف عليه الناسُ مِن البديهيات والمُسلَّمات؛ جعل لكُلِّ فعلٍ ردًا مُنعزلًا عنه، غالبًا ما يفوقه ويتجاوزه بمئات المرات.

يقول كثيرون مِن أصحابِ الأقلام وأربابِ حِرفة الكتابة، إن الخطوطَ الحمراءَ تلاشت وانمحت. لم تعد هناك مَحظوراتٌ صريحةٌ واضحة، وثابتة كما في الماضي القريب؛ فيومًا وراء يومٍ وساعة بعد ساعةٍ، يُضافُ إلى القائمة مَحظورٌ جديد. يقولون إنَّ الأمرَ أصبح عائمًا غائمًا، لا إطار له ولا ضوابط حاكمة. الكلمةُ الواحدة تُفَسَّر بطُرق عِدة، وتُحمَل على أكثر مِن وجه؛ لا تبعًا للسياق الذي ظهرت فيه فقط؛ بل ارتباطًا بعوامل أخرى، منها إحكام السيطرة، وليّ الأذرع، وقصف الأدمغة.

ثمّة رسائل تُبَث هنا بطريق غير مباشرة؛ فغياب القاعدةِ المُتبَعة وإن كانت قامعةً قاهرة؛ ليس إلا رسالة ترويع وتخويف، حال مُزمنة مِن التوتر والترقُّب، تلِفُّ الأجواءَ، وتستنفذُ القدرةَ على التكيُّف والتعايُش. المُحصِّلة النهائية؛ كُتاب ومفكرون يهجرون أوراقَهم، آخرون يهاجرون إلى فضاءات أرحب ويختارون عبورَ الحدود. شللٌّ يصيب كثيرين، فيعزفون عن إنتاج أيّ نصٍّ؛ لصحيفة أو مجلة، أو كتاب. الحكمة السائدة الآن: ”ابعد عن الشر وغني له“، الغناءُ نفسه انضم إلى مصادر الخطر؛ لم يعد المطربون والشعراء والملحنون في مَأمَن، ومثلهم المسرحيون والسينمائيون ومَن التحق بسفائنهم وركائبهم؛ كلٌّ في مَهَبِّ الريح سواء.

حساسية أي نظام سياسيّ للكلمة أمر يصعب الجدال فيه، وضعفه الظاهر أو الخفيّ بمنزلة عامل؛ يزيد مِن تلك الحساسية ويضاعفها، كيف لا؛ ومُؤسسات الحُكم القوية ذاتها، المُستقرة في بلدانها، تهزّها الكلمةُ وترجُّها رجًا. مُؤسسات الحُكم في الولايات المتحدة على عِظَم قدرها؛ تُفجِعها تدوينةُ جديدة مِن الرئيس ترامب، وتزلزلُ أركانَها تغريدةٌ تصدر عنه في غير مَحلِّها. فارقٌ بينها وبين نُظُم حُكم أخرى، تتوزع في أنحاء المعمورة، أنها لا تعتدي دون جريرة على مواطنيها، تشريعاتها مَصونة ومُعادلاتها مَنطقية مُحكَمة، والخطأ لديها يقابله تعريفٌ راسخٌ في القانون، وعقوبةٌ لا تنكيل فيها ولا انتقام؛ خطوطها الحمراء ليست شفهية ولا عشوائية أو انفعالية، لا تُناقِض مواد الدستورَ أو تنتهكُ الحقوقَ الأساسية للناس.

لا أدري متى ظهر تعبير ”خَطٌّ أحمر“ في الخطاب السياسيّ، ولا تصورت يومًا أنني أكتب مَرثية في وفاةِ الخطوطِ الحمراء؛ إنما هو تداعي الأحوال وانحدارها بما لم يكُن أبدًا في الحسبان.

 نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

GMT 13:43 2018 الأربعاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

دولة في غزة كُبرى؟

GMT 11:56 2018 الإثنين ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

الوطن والشعب.. وأنا

GMT 08:20 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

درع العرب (1) نواة القوة المشتركة

GMT 09:54 2018 الثلاثاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

مسقط... رؤية مختلفة

GMT 08:32 2018 الأحد ,28 تشرين الأول / أكتوبر

عودة الوحش

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

خَطٌّ أحمر خَطٌّ أحمر



يتميَّز بطبقة شفّافة مُطرّزة وحواف مخملية

كورتني كوكس تُهدي فُستانًا ارتدته قبل 20 عامًا لابنتها كوكو

نيويورك ـ مادلين سعاده

GMT 03:24 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

"دولتشي آند غابانا" تُقدِّم عبايات لخريف وشتاء 2019
  مصر اليوم - دولتشي آند غابانا تُقدِّم عبايات لخريف وشتاء 2019

GMT 06:16 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

أغلى فيلا في تايلاند مقصد للمشاهير ومُحبي الفخامة
  مصر اليوم - أغلى فيلا في تايلاند مقصد للمشاهير ومُحبي الفخامة

GMT 09:04 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

ديكورات مستوحاة من الطبيعة للجلسات الخارجية
  مصر اليوم - ديكورات مستوحاة من الطبيعة للجلسات الخارجية

GMT 02:48 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

أرخص 10 بلدان أوروبية لقضاء عُطلة صيفية لا تُنسى
  مصر اليوم - أرخص 10 بلدان أوروبية لقضاء عُطلة صيفية لا تُنسى

GMT 03:37 2019 الأحد ,16 حزيران / يونيو

7 محظورات و 5 نصائح لتأثيث غرف نوم مميزة للأطفال
  مصر اليوم - 7 محظورات و 5 نصائح لتأثيث غرف نوم مميزة للأطفال
  مصر اليوم - رفض دعاوى بي إن القطرية ضد عربسات بشأن بي أوت

GMT 22:42 2019 الجمعة ,31 أيار / مايو

البورصة الأردنية تنخفض 0.33 % في أسبوع

GMT 09:01 2019 الأربعاء ,29 أيار / مايو

توقعات ببيع 28 مليون سيارة في الصين بنهاية 2019
 
Egypt-Sports

All rights reserved 2024 Arabs Today Ltd.

All rights reserved 2024 Arabs Today Ltd.

egyptsports egyptsports egyptsports egyptsports
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon