توقيت القاهرة المحلي 13:53:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

مَسَاطيل

  مصر اليوم -

مَسَاطيل

بقلم : بسمة عبد العزيز

 جرت العادة أن يُوصَف الشخص الذي يرتكب تصرفًا غير معقول، ينُم عن الغفلة وغياب العقل؛ بأنه "مسطول". المسطول قد ينسى مفتاح البيت في الباب، أو يتركه بالداخل ثم يغلق عليه ويمضي، أو يرتدي فردتيّ جورب مُختلفتين في لقاء ذي أهمية. يقوم المَسطول بأفعال قد لا يدركها جيدًا، ولا يعيها.
***
تابعت أصدقاءً كُثر يكتبون عن مواقف مضحكة يجوز فيها الوصف؛ مِنهم مَن ألقى بثمرات البطاطس إلى صفيحة القمامة واحتفظ بالقشر للطهي، ومنهم مَن علا صوت مُحدثه، فحاول أن يخفضه باستخدام جهاز التحكم عن بُعد. مِنهم أيضًا مَن حملت حقيبة ابنتها لتضعها في السيارة، ثم انطلقت في طريقها تملؤها الثقة، بينما البنت نفسها لا تزال واقفة على رصيف المدرسة؛ مَنسية. ثمّة فيديو شهير لامرأة مِن إحدى دول شرق أسيا، تقف أمام المَوقد وتطهو؛ تتذوق الطعام بعد أن تنفخه في المَغرفة لتخفف حرارته، ثم تضيف الملح إلى الإناء وتتذوق ما تبقى في المغرفة التي لا تزال بيدها، لكنها لا تجد فارقًا يُذكَر؛ فتزيد الملحَ وتتذوق مِن المغرفة مرة أخرى، ولا تدرك أن الملح الذي ترشه في الإناء لا تنال منه المغرفةُ شيئًا. عديد التعليقات يقول: مَسطولة.
***
كثيرنا يؤدي ما عليه بآلية، لا يفكر ولا يُعطي نفسه كُلّية لما يقوم به، ينشغل بأمور أخرى تحجب جزءًا مِن إدراكه؛ فيأتي بعض المرات بأفعالٍ عجيبة. أحيانًا ما يكون لهذه الأفعال تفسير مَنطقي، لكن هذا التفسير لا ينفي تشتت صاحبها، وعدم حضور ذهنه لحظة ارتكابها؛ الأمر الذي يُكسِبه عن جدارة لقب: "مسطول".

السَّطْل في اللغة العربية هو الطسيسَة الصغيرة، أما الفعل "سَطَلَ" فيعني خدر، والساطِل هو الفاعل، أما المَسطول فهو الأبله المُخدَّر، أي المفعول به الذي تعاطى مادة كالخمر مثلًا؛ ما فصار بها مسطولًا، وربما كانت الصلة بين المفردتين، نابعة مِن اعتياد تقديم الخمر في الأزمنة القديمة، داخل سطْل.
***
يشكو عدد مِن المعارف والأصدقاء؛ يقولون: نشعر كما لو كنا مساطيل. ارتخاء في العقل والجسد، ضعف في القدرة على الانتباه وتضاؤل التركيز، بطء وثِقَل وأخطاء مُدهشة لم نتصور أن نرتكبها في يوم من الأيام. البعض يضيف؛ تأخر في ردّ الفعل بغض النظر عن النتيجة، ورغبة مُلحَّة في الارتماء فوق أقرب سطح؛ مقعد أو أريكة أو حتى على الأرض. تثاؤب مستمر رغم النوم لساعات طوال، وصحو هو أشبه بالنوم.
***
ثمَّة أسبابٌ وعوامل متنوعة، تسهم في خلق هذا الشعور الغريب بالخدر. في الأسابيع القليلة الماضية، أعلنت منظمة الصحة العالمية أن مصر قد انتقلت مِن المرتبة الثالثة في قائمة الأعلى تلوثًا؛ إلى المرتبة الثانية. أصدرت المُنظمة تقريرًا، حوى أسماء المدن التي ناء هواؤها بنسبة ملوثات شديدة الارتفاع ما بين عامي 2011 و2015. احتلت المراتب الثمانية الأولى خمسُ دول؛ هي على الترتيب؛ الهند ومصر وبنجلاديش ثم الصين وتركيا؛ لتكون نيودلهي على قمة القائمة، تليها في المركز الثاني عاصمتنا؛ القاهرة، التي يتسبب الاختناق المروري المرعب بشوارعها، وتراجع المساحات الخضراء بين مبانيها، في دفعها إلى هذه المَرتبة المُتقدمة، مُتفوقة على دول صناعية كبرى مثل الصين.
قال تقرير منظمة الصحة العالمية إن مئات الآف القتلى يسقطون جراء التلوث كل عام، هؤلاء لا يقطنون بجوار مصانع تخالف الشروطَ البيئية مثلًا، ولا يعيشون في مناطقٍ تشتهر بعمليات تصنيع غير صحيّة، بل هم فقط يسيرون عبر شوارع القاهرة، ويتنفسون هواءَها الذي نتنفسه جميعًا كل يوم.

***
نزهة قصيرة في شوارع العاصمة تصيب بالدوار، تجعل الأجفان ثقيلة والأعين دامعة؛ وكأن ذرات الغبار الضخمة قد علقت داخلها وجرحت أغشيتها، ثم استقرت بينها وأبت الخروج. يتوه العقلُ ويتشوش الوعي، ويصبح التركيز مُهمةً صعبة تحتاج إلى بذل جهد وافر، لكن الجهد يكاد يكون معدومًا، في ظل الإنهاك الذي يصيب الخلايا الغارقة بين ذرات ثاني أكسيد الكربون، المَسطولة بالعوادم والنفايات. مَن جرب السفر إلى بلد أقل تلوثًا، أدرك حجم المعاناة.
***
هناك عوامل تسبب الحالَ نفسها وتضاعِف منها، تتعلق بالأجواء أيضًا ودرجة نقاءها؛ لكنها تتجاوز ما يقتحم رئاتنا من غازات وانبعاثات ونواتج احتراق، إلى ما يقتحم وعينا من ملوثات كلامية.
ثمة كلمات تمارس دورًا أشد وطأة على الأدمغة مِن تلوث الهواء، ثمة تصريحات وأحاديث وخطابات، تضرب محاولات التيقظ والانتباه في مَقتل؛ نسمعها فيكتنفنا الدوار، ونتابعها فتصاب مراكز تفكيرنا بالشلل، ثم نشعر أننا قد صرنا حقًا مَسطولين، لا نعي ما يدور مِن حولنا.
***
سمعت أيضًا مَن يحاول إقناع الناس، بأن رفع الأسعار؛ هو قرارٌ مباشر من الرب، وأخيرًا تعثَّرت في إعلان الدجاج الوطنيّ، الذي يدعم الروحانية ويقوي إيمان آكليه.
الحقُّ أن ثمّة مشاهد لا يميز المرء فيها مَن الساطِل، ومَن المَسطول؟
***
الأزمة أن المسطول مُعطَّلُ الإدراك، غائبُ الإرادة، عاجزٌ في العادة عن الفعل، الأزمة أن التخلُّصَ مِن حال الخدر يتطلَّب الكَفَّ عن تناول المُخدِر، وأنّ المُخدِر تغلغل فينا حتى النخاع.

نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

GMT 13:43 2018 الأربعاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

دولة في غزة كُبرى؟

GMT 11:56 2018 الإثنين ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

الوطن والشعب.. وأنا

GMT 08:20 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

درع العرب (1) نواة القوة المشتركة

GMT 09:54 2018 الثلاثاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

مسقط... رؤية مختلفة

GMT 08:32 2018 الأحد ,28 تشرين الأول / أكتوبر

عودة الوحش

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مَسَاطيل مَسَاطيل



يتميَّز بطبقة شفّافة مُطرّزة وحواف مخملية

كورتني كوكس تُهدي فُستانًا ارتدته قبل 20 عامًا لابنتها كوكو

نيويورك ـ مادلين سعاده

GMT 03:24 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

"دولتشي آند غابانا" تُقدِّم عبايات لخريف وشتاء 2019
  مصر اليوم - دولتشي آند غابانا تُقدِّم عبايات لخريف وشتاء 2019

GMT 06:16 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

أغلى فيلا في تايلاند مقصد للمشاهير ومُحبي الفخامة
  مصر اليوم - أغلى فيلا في تايلاند مقصد للمشاهير ومُحبي الفخامة

GMT 09:04 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

ديكورات مستوحاة من الطبيعة للجلسات الخارجية
  مصر اليوم - ديكورات مستوحاة من الطبيعة للجلسات الخارجية

GMT 02:48 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

أرخص 10 بلدان أوروبية لقضاء عُطلة صيفية لا تُنسى
  مصر اليوم - أرخص 10 بلدان أوروبية لقضاء عُطلة صيفية لا تُنسى

GMT 03:37 2019 الأحد ,16 حزيران / يونيو

7 محظورات و 5 نصائح لتأثيث غرف نوم مميزة للأطفال
  مصر اليوم - 7 محظورات و 5 نصائح لتأثيث غرف نوم مميزة للأطفال
  مصر اليوم - رفض دعاوى بي إن القطرية ضد عربسات بشأن بي أوت

GMT 22:42 2019 الجمعة ,31 أيار / مايو

البورصة الأردنية تنخفض 0.33 % في أسبوع

GMT 09:01 2019 الأربعاء ,29 أيار / مايو

توقعات ببيع 28 مليون سيارة في الصين بنهاية 2019
 
Egypt-Sports

All rights reserved 2024 Arabs Today Ltd.

All rights reserved 2024 Arabs Today Ltd.

egyptsports egyptsports egyptsports egyptsports
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon