توقيت القاهرة المحلي 13:53:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

«ألا أونا»

  مصر اليوم -

«ألا أونا»

بقلم : نيفين مسعد

 كان صاحبنا من هواة ارتياد المزادات، فى بدروم ڤيلته توجد غرفة خاصة يحتفظ فيها بأشيائه الثمينة، ينظف الغرفة بنفسه ولا يسمح لمخلوق بأن يدلف إليها إلا زائرا متفرجا ومعجبا. تقدم به العمر ودخل حلقته السابعة ومع ذلك لا يتورع عن تسلق آخر درجات السلم المعدنى ليغير لمبة الكهرباء المحروقة، أو يزيل خيوط العنكبوت التى تتجمع بين وقت وآخر بقطعة قماش مبللة. عندما تشُق عليه الحياة أو يسقط منه أحد رفاق العمر الطويل يختفى عن الأنظار، يعرف الجميع أنه هناك فى صومعته يجلس على المقعد المذهب طراز لويس الخامس عشر ويجيل نظره بين مقتنيات الغرفة، يلفح وجهه الهواء البارد أو الساخن المنبعث من جهاز التكييف حسب الظروف، ويهرب من ذكريات إلى ذكريات. يهرب من أيامه الحلوة مع هذا الرفيق الذى فارقه إلى ملابسات اختياره كل تحفة من التحف التى تحيط به فى حب.

هذه السجادة العجمى من مدينة قم هى أثمن ما لديه فى الصومعة، اشتراها من مزاد على مقتنيات أحد القصور الملكية ودفع فيها عام ١٩٥٩ أو عام ١٩٦٠ ليس متأكدا من عام الشراء مبلغا كبيرا من المال سبب له إرباكا شديدا فى حينه. لكن عندما اقتنص تحفته وضم اللفافة الكبيرة التى تغلفها إلى صدره شعر أنه ملك الدنيا بين يديه. هذا الشمعدان الفضى الضخم مصنوع بمهارة فائقة حتى لتحسب الثعبان الملفوف حول ساقه يتربص بك ويكاد يلدغك فتجفل، هو اشتراه من مزاد أقيم خصيصا لمصنوعات الفضة الخالصة، وهذه مناسبة لا تتكرر كثيرا فالأرجح أن تضم صالة المزادات معروضات من كل صنف. هو يذكر يومها كيف تردد بين سيف فضى مرصع بالفصوص الملونة وبين إناء كبير للفاكهة حتى إذا وقع نظره على الشمعدان قطعت جهيزة قول كل خطيب. أما هذه اللوحة طبق الأصل لرائعة بيار رينوار «الجسر الجديد« فإنها مثلت خروجا لأول مرة على تقاليده الصارمة فهو لا يقتنى إلا كل ما هو أصلى مائة فى المائة، لكنه عندما ذهب يوما لأحد المزادات ووجد هذه الرائعة خُدِع فيها وهو الخبير، ضَعُف أمامها رغم أنه قاوم فى البداية ثم اشتراها وجمعته براسمها المغمور علاقة صداقة.

اليوم أوى إلى غرفة التحف كالمعتاد لكن شجنه كان غير شجون السنين الكثيرة الماضية، وكيف لا ؟ ينقل نظره من تحفة إلى أخرى يحاول أن يجد ما يضحى بصحبته ليبيعه فى المزاد. عندما يفكر فى الأمر يجده مقلوبا وغير مألوف فما اعتاد دخول صالات المزادات إلا شاريا فكيف يطاوعه قلبه على أن يفرط ويبيع؟ هز رأسه يمينا ويسارا بكل قوة كأنه ينفى عن نفسه أن يفعل، انتفض واقفا من جلسته وتوجه نحو الباب، ثم تذكر فعاد أدراجه وسقط على مقعده. قصدته ابنته الوحيدة كما تفعل دائما ليفك ضائقتها المادية، لم يتردد من قبل فى أن يساعدها بعلم زوجته أحيانا وبدون علمها فى معظم الأحيان. كان ذلك ممكنا حين كان له مكتب هندسى كبير واستمر ذلك ممكنا حتى بعد أن كبر وصار خروجه من الڤيلا للمكتب يمثل مشكلة حقيقية، كبرت أيضا ابنته ولامست حد الخمسين لكنها بالنسبة له هى هى، تطلب مصروفا إضافيا لتتسكع مع صاحباتها فى وسط البلد، أو نفحة من المال لتشترى سيارة يذهب بها ابنها للجامعة، أو أخيرا مبلغا تكمل به أحد الأقساط الشهرية لڤيلا الشيخ زايد. لم يرد لها طلبا قط حتى وهو لا يعرف كيف يدبر لها ما تريد، كان دائما يتصرف. الآن لم يعد يمكنه أن يتصرف إلا إن هو تخلى عن واحدة من التحف التى ارتبط بها وصارت بالنسبة له مخلوقات تستمع وتهدهد وتهدئ وتحب.

هدّته حيرته وأحس بجو الغرفة أبرد مما يحتمل، أغلق التكييف وحسم تردده أو ظن أنه حسمه، وقبل أن يغادر الغرفة ذهب إلى حيث تفترش السجادة العجمى مائدة من خشب الأبنوس فالتقطها مشيحا بوجهه عنها كأنه لا يريد أن يرى. ما من جملة كانت قادرة على تطييب خاطره من نوع: تعيش وتجيب، فداك، البركة فيك، مادامت الصحة بخير ولا يهمك. دخل ذلك كله من أذنه اليمنى وقفز على رأسه وخرج من أذنه اليسرى لم يبق منه حرف. تأبط سجادته وأودعها صالة المزادات التى يتعامل معها منذ تعلق بهذه الهواية فى شرخ الصبا، زادته دهشة صاحب الصالة حزنا على حزن وجعلته يوقن أنه الصح وكل من حوله يخطئون ولو أحبوه.

أيام ما يعلم بها إلا ربنا فاتت ما بين مغادرة تحفته العجمية مكمنها فى الصومعة وبين موعد عقد المزاد. صحا مبكرا فى ذلك اليوم، ارتدى ما صادفه من ثياب، همس للسائق بصوت خفيض: سنتجه إلى الصالة وتمنى ألا يسمعه السائق لكنه سمعه وذهب إلى الوجهة التى يعرفها. فى طريقه للجلوس فى صالة المزادات حيّا وجوها كثيرة يعرفها مع أنه استغربها حين مر بها: فلان بك، فلانة هانم... فجأة وقف وسأل.. ما هذا ؟ ماذا أنا فاعل؟ تنبه.. تحفز..اشرأب وتحول إلى أذنين كبيرتين تنصتان.. حتى إذا فُتِح المزاد على سجادة عجمى قديمة مختومة بختم مدينة قم وسمع عبارة « ألا أونا« تلبسته قوة جهنمية لم يعرف مصدرها، انتفض واقفا من فوره وضغط على ذراع مقعده بشدة وصرخ بأعلى صوته: ستووووووووب لن أبيع سجادتى، ضحك فى هيستريا وبكا فى حرقة واحتار معارفه هل يضحكون أم يبكون.

نقلاً عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

GMT 13:43 2018 الأربعاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

دولة في غزة كُبرى؟

GMT 11:56 2018 الإثنين ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

الوطن والشعب.. وأنا

GMT 08:20 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

درع العرب (1) نواة القوة المشتركة

GMT 09:54 2018 الثلاثاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

مسقط... رؤية مختلفة

GMT 08:32 2018 الأحد ,28 تشرين الأول / أكتوبر

عودة الوحش

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«ألا أونا» «ألا أونا»



يتميَّز بطبقة شفّافة مُطرّزة وحواف مخملية

كورتني كوكس تُهدي فُستانًا ارتدته قبل 20 عامًا لابنتها كوكو

نيويورك ـ مادلين سعاده

GMT 03:24 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

"دولتشي آند غابانا" تُقدِّم عبايات لخريف وشتاء 2019
  مصر اليوم - دولتشي آند غابانا تُقدِّم عبايات لخريف وشتاء 2019

GMT 06:16 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

أغلى فيلا في تايلاند مقصد للمشاهير ومُحبي الفخامة
  مصر اليوم - أغلى فيلا في تايلاند مقصد للمشاهير ومُحبي الفخامة

GMT 09:04 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

ديكورات مستوحاة من الطبيعة للجلسات الخارجية
  مصر اليوم - ديكورات مستوحاة من الطبيعة للجلسات الخارجية

GMT 02:48 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

أرخص 10 بلدان أوروبية لقضاء عُطلة صيفية لا تُنسى
  مصر اليوم - أرخص 10 بلدان أوروبية لقضاء عُطلة صيفية لا تُنسى

GMT 03:37 2019 الأحد ,16 حزيران / يونيو

7 محظورات و 5 نصائح لتأثيث غرف نوم مميزة للأطفال
  مصر اليوم - 7 محظورات و 5 نصائح لتأثيث غرف نوم مميزة للأطفال
  مصر اليوم - رفض دعاوى بي إن القطرية ضد عربسات بشأن بي أوت

GMT 22:42 2019 الجمعة ,31 أيار / مايو

البورصة الأردنية تنخفض 0.33 % في أسبوع

GMT 09:01 2019 الأربعاء ,29 أيار / مايو

توقعات ببيع 28 مليون سيارة في الصين بنهاية 2019
 
Egypt-Sports

All rights reserved 2024 Arabs Today Ltd.

All rights reserved 2024 Arabs Today Ltd.

egyptsports egyptsports egyptsports egyptsports
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon