بقلم - هالة العيسوي
الاهتمام بصحة المصريين واحد من الأعمدة في مرحلة إعادة بناء الدولة وإقامة نهضتها. توفير الدواء والعلاجات لمكافحة الأمراض التي تنهش صحة المصريين وتعرقل التنمية أصبح علي رأس اهتمامات الدولة الآن حتي أنها عادت بثقلها بعد سنوات من الغياب للتدخل وبمشاركة من القوات المسلحة من أجل تعويض النقص سواء في علاجات فيروس سي أو ألبان الأطفال من خلال الوعي بأن شعبا صحيحاً معافي كفيل بتنمية بلاده وأن الأمراض الخطيرة تفقدنا نسبة هائلة من القوة العاملة المنتجة. ولعلك تتساءل مثلي لماذا عادت الدولة بكل هذا الثقل إلي توفير تلك العلاجات رغم أننا في زمن الاقتصاد الحر والعولمة والترويج لأفكار ضرورة تخلي الدولة ورفع يدها عن المشروعات المكلفة وتركها للقطاع الخاص ونسمع عن دعوات لبيع السكك الحديدية والتخلص من الصحف القومية وتصفيتها وما إلي ذلك من دعوات مريبة. إلا أن موضوع صحة المصريين - تحديدا - مسألة أمن قومي تدخل فيها اعتبارات كثيرة ومنافسات شرسة، واحتكارات وعمليات تجسس وتلاعب.
ما أشبه الليلة بالبارحة.. نقولها ونحن نراقب المشهد الحالي ونتذكر عملية تمصير صناعة الدواء ونتابع بانبهار تجربة حية نابضة وقعت تفاصيلها في الستينيات بعد قيام ثورة يوليو تحكيها الصيدلانية ناهد يوسف علي في كتابها »دواء وعِلل». الكتاب يبدو أنه سيرة ذاتية لصاحبته مع أنه في رأيي شهادة لسيدة شاركت بعلمها وجهدها في نهضة صناعة الدواء ومستلزماته تحكي فيه قصتها مع صناعة الأدوية في مصر منذ تأميم الشركات الأجنبية وتمصيرها بعد قيام ثورة يوليو والنجاح الذي حققته عملية التمصير في نمو هذه الصناعة والوصول بها إلي تحقيق الاكتفاء الذاتي وتوفير 85% من الاحتياجات المحلية من بعض الأدوية ومستلزماتها وتجاوز ذلك إلي تصديره إلي بعض الدول الأفريقية، وتوفير الأمصال والعلاجات اللازمة لجبهة القتال في حرب أكتوبر 1973، وحتي مرحلة التراجع والانهيار التي بدأت بالإفشال المتعمد لبعض الشركات والمصانع الناجحة عبر إهمالها وعدم تطويرها أو توفير الإمكانات اللازمة لتحديثها رغم أنها كانت في متناول اليد، وتسجل في تجربتها كيف أعيقت كل محاولات وخطط التطوير. علي يد مندوبي الحزب الوطني المكلفين بإدارة بعض تلك المصانع ومحاولاتهم الحثيثة لعرقلة أي خطط أو مطالبات بالتطوير.
حدث ذلك كله تمهيداً لبيع شركات ومصانع الأدوية للقطاع الخاص والتخلص من القطاع العام والترويج لفكرة أنه عبء علي الدولة بسبب خسائره المتنامية من أجل عودة سيطرة القطاع الخاص وتسلل رأس المال الأجنبي واحتكاره لصناعة الدواء في مصر مرة أخري وصولا للحظة قاتمة عاشتها صاحبة الكتاب حين شاهدت كيف تحول مصنع العبوات الزجاجية الذي ساهمت في إنجاحه وتوسعته إلي مصنع لزجاجات البيرة. بعد بيعه للقطاع الخاص تخصص نشاطه في صناعة المشروبات، وكيف أعطت الحكومة الملاك الجدد للمصنع أرضه التي تبلغ خمسين فدانا بثمن بخس كهدية سخية كما أعطتهم مصنع الأمبولات فوق البيعة لأنه كان المصدر الأكبر لأرباح الشركة. ترصد الصيدلانية ناهد يوسف علي في مرحلة الخصخصة كيف لجأت الإدارات الجديدة لمصانع الأدوية التي كانت تابعة للدولة للاستعانة بنفس الخبرات القديمة والكفاءات العلمية والإدارية الناجحة التي طالما حققت طفرات في صناعة الدواء بعد أن تسببت الخصخصة في تسريحها والقضاء علي مسيرتهم وتجربتهم الناجحة. استفادت المصانع الخاصة من هذه الثروة البشرية والعلمية الجاهزة في تعظيم أرباحها وإدارة مصانعها وشركاتها.
في نهاية كتابها الذي رصدت فيه وقائع تآكل استقلالية صناعة الدواء المصرية والانسحاق أما طلبات الشركات الأجنبية العملاقة حتي تراجعت نسبة تصنيع الأدوية المصرية الخالصة إلي ما يقرب من الصفر، تعطينا الصيدلانية المخضرمة الأمل في استعادة مكانة تصنيع الدواء المصري وتنصح باستخدام »قائمة الأدوية الأساسية» الصادرة من منظمة الصحة العالمية و»الكيماويات الجنيسة» التي انتهت الملكية الفكرية لها من الشركات الدولية العملاقة والتي صارت تنتج بالهند والصين بأسعار رخيصة لإنتاجها في مصر، كما تنصح باستخدام حق الترخيص الإجباري لإنتاج الأدوية الحديثة اللازمة لعلاج الأمراض الخطيرة كالسرطان بتكلفة قليلة وذلك حتي يتم وضع خطة لتصنيع الكيماويات الدوائية وتحقيقها
نقلا عن الأخبار القاهرية