توقيت القاهرة المحلي 13:53:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

رائحة الثوم المحروق

  مصر اليوم -

رائحة الثوم المحروق

بقلم - محمد المخزنجي

القصة وردت في الكتاب الرائع الضخم عن مرض السرطان «إمبراطور المآسي»، وتحكي أنه في 2 ديسمبر (كانون الأول) 1943 أغار سرب من الطائرات الألمانية على مجموعة سفن أميركية راسية قرب مدينة باري جنوب إيطاليا، وكانت إحدى هذه السفن، وتدعى «جون هارفي»، محمّلةً بسبعين طنّاً من غاز الخردل دون معرفة طاقمها بذلك، ومع اشتعال السفينة اشتعلت حمولتها من الغاز السام، وبدأ الصيادون والقاطنون حول الميناء يعانون من رائحة الثوم المحروق التي تشبَّع بها الهواء، وتم انتشال البحارة الأميركيين من المياه وهم يعانون من رعب الألم وعيونهم مغلقة ومنتفخة. وخلال الأسبوع الأول توفي 83 رجلاً من أصل 617 ممن تم انتشالهم، وانتشر الغاز بسرعة فوق الميناء ومحيطه فتوفي ما يقارب ألف إنسان متسممين بهذا الغاز.

«في الواقع فجَّر الحلفاء أنفسهم» كان ذلك تعليقاً ذيَّل به الكاتب القصة، التي لم تنتهِ عند هذا الحد، بل اتخذت مساراً مُفارقاً تماماً يقول إن ما تفجَّر هو شيء آخر غير خداع الحروب وانحطاط أدواتها؛ فرغم أن هذه الحادثة كانت سبباً في سرعة إنشاء وحدة سرية لدراسة غازات الحروب سُمِّيت «وحدة الحرب الكيماوية» أبرمت عقوداً مع كثير من مراكز الأبحاث في الولايات المتحدة، فإن العالِمَيْن اللذين كان من نصيبهما البحث المتعلق بغاز الخردل، وهما لويس جودمان وألفريد جيلمان، أخذا البحث إلى مسار مختلف تماماً عن غاية ما تم التعاقد معهما بشأنه.

لم يهتم العالمان كثيراً بالخواص المسببة للبثرات الجلدية لغاز الخردل وقدرته على إحراق الجلد والأغشية المخاطية لضحاياه، لأن ما شد انتباههما أكثر هو قدرة هذا الغاز على إهلاك خلايا الدم البيضاء وتدمير نخاع العظام، وهو ما أثبته تشريح جثث الجنود الأميركيين ضحايا الكارثة. وشغل تفكير جودمان وجيلمان سؤال مثير: هل يمكن استخدام هذا التأثير بجرعات ضئيلة دقيقة لاستهداف تكاثر الخلايا البيضاء السرطانية بشكل نوعي؟

وللإجابة عن السؤال، بدأ العالمان إجراء أبحاثهما على الحيوانات، ووجدا أن الحقن الوريدي للفئران والأرانب بالخردل جعل خلايا الدم البيضاء الطبيعية تختفي تقريباً من الدم والنخاع العظمي، دون أن تتسبب في ظهور البثرات البغيضة على الجلد، مما يعني الفصل بين تأثيري الخردل واستثمار أحدهما لغرض علاجي، وشجعهما ذلك على تركيز أبحاثهما على سرطان الغدد الليمفاوية لدى حيوانات التجارب في البداية، ثم على حالة بشرية متطوعة، وأدى حقن هذا العلاج الوريدي بالخردل إلى هجوع المرض بشكل مُبهِر واختفاء العقد الليمفاوية المتضخمة لدى الفئران والإنسان!

أعاد النجاح الأولي لغاز الخردل في قتل الخلايا السرطانية إحياء جدل قديم حول السموم بين الضر والنفع، كما أعاد لضمير الطب إعلاء غايات الإحياء على أحقاد الإماتة، ففي عام 1948 قام كونيليوس رودز رئيس وحدة الحرب الكيماوية في الجيش الأميركي بترك منصبه ليصبح مديراً لمستشفى ميموريال ومعهد الأبحاث الملحق به، مُركِّزاً على هدف محاربة السرطان كيماوياً. وتكللت خطوته بعد ذلك بالنجاح؛ ففي أوائل الخمسينات من القرن العشرين، نجح الطبيبان العالمان جوزيف بورشينال وماري لويس مورفي في علاج أطفال مصابين بمرض لوكيميا ليمفاوية من النوع الحاد والنادر بعقار بدأ تجاربه كونيليوس رودز نفسه، وفي مستشفى ميموريال ذاته.

حقق ذلك الدواء الجديد حينها هجوعاً سريعاً في المرض حيث تلاشت خلايا اللوكيميا من نخاع العظام، ومن الدم، في غضون أيام قليلة في أغلب الحالات. لكنه كان هجوعاً مؤقتاً وكأنه ومضة خير عابرة في عتمة شر عنيد، لكنها ومضة ظلت تتسع ويتكاثف ضوؤها يوماً بعد يوم حتى بلغت ما بلغته علاجات السرطان المتقدمة الآن، وهي قصة تقول لنا: هناك أشياء كثيرة تحتمل الوجهين، الخير والشر، الإحياء والإماتة، وما يُرجِّح فوز أيهما على الآخر هو الاختيار، فمن رائحة الثوم المحروق للخردل القاتل، هناك من تنسَّم أريج مادة شافية من بعض أذى إمبراطور المآسي، مرض السرطان.

نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

GMT 01:13 2019 الخميس ,16 أيار / مايو

التوافق ينتصر للسودان .. والمعركة مستمرة

GMT 01:12 2019 الخميس ,16 أيار / مايو

مصر الفيدرالية

GMT 01:06 2019 الخميس ,16 أيار / مايو

فاتورة الحرب.. مدفوعة مقدمًا!

GMT 05:30 2018 السبت ,01 كانون الأول / ديسمبر

مشاكل ترامب أمام القضاء الأميركي

GMT 05:29 2018 السبت ,01 كانون الأول / ديسمبر

من مفكرة الأسبوع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

رائحة الثوم المحروق رائحة الثوم المحروق



يتميَّز بطبقة شفّافة مُطرّزة وحواف مخملية

كورتني كوكس تُهدي فُستانًا ارتدته قبل 20 عامًا لابنتها كوكو

نيويورك ـ مادلين سعاده

GMT 03:24 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

"دولتشي آند غابانا" تُقدِّم عبايات لخريف وشتاء 2019
  مصر اليوم - دولتشي آند غابانا تُقدِّم عبايات لخريف وشتاء 2019

GMT 06:16 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

أغلى فيلا في تايلاند مقصد للمشاهير ومُحبي الفخامة
  مصر اليوم - أغلى فيلا في تايلاند مقصد للمشاهير ومُحبي الفخامة

GMT 09:04 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

ديكورات مستوحاة من الطبيعة للجلسات الخارجية
  مصر اليوم - ديكورات مستوحاة من الطبيعة للجلسات الخارجية

GMT 02:48 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

أرخص 10 بلدان أوروبية لقضاء عُطلة صيفية لا تُنسى
  مصر اليوم - أرخص 10 بلدان أوروبية لقضاء عُطلة صيفية لا تُنسى

GMT 03:37 2019 الأحد ,16 حزيران / يونيو

7 محظورات و 5 نصائح لتأثيث غرف نوم مميزة للأطفال
  مصر اليوم - 7 محظورات و 5 نصائح لتأثيث غرف نوم مميزة للأطفال
  مصر اليوم - رفض دعاوى بي إن القطرية ضد عربسات بشأن بي أوت

GMT 22:42 2019 الجمعة ,31 أيار / مايو

البورصة الأردنية تنخفض 0.33 % في أسبوع

GMT 09:01 2019 الأربعاء ,29 أيار / مايو

توقعات ببيع 28 مليون سيارة في الصين بنهاية 2019
 
Egypt-Sports

All rights reserved 2024 Arabs Today Ltd.

All rights reserved 2024 Arabs Today Ltd.

egyptsports egyptsports egyptsports egyptsports
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon