أعترف أننى دائما من المؤيدين لخطط وبرامج الإصلاح وتصحيح مسار السياسات الاقتصادية للدولة، وأعترف أيضا أننى لا أقف عند تلك الحدود بل أتجاوزها أحيانا لصالح تخفيف المسئوليات من على عاتق الدولة لتمكينها من القيام بدورها الفعلى وهو التشريع - التنظيم - الرقابة ورفع مستوى الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم، ولكن فى الوقت ذاته لا يمكننى أن أدافع عن الإجراءات الإصلاحية إذا كان المحور الرئيسى بها هو زيادة الأسعار دون إجراءات لتحسين مستوى الخدمات بشكل جذرى وإيقاف نزيف الخسائر التى تتعرض لها هيئات الدولة الاقتصادية.
المواطن قد يتحمل على مضض زيادة الأسعار فى مقابل حصوله على خدمة قيمة بمستوى لائق يتناسب مع السعر العادل الغير مدعوم الذى أصبح يتحمله، ولكن زيادة الأسعار فى ظل خدمات سيئة وخسائر فادحة للهيئات الاقتصادية فهذا أمر آخر لا أعتقد أن أي إنسان عاقل يمكن أن ينحاز إليه أو يدافع عنه، وربما تكون أحدث إجراءات الزيادات السعرية التى تم تطبيقها مؤخرا هى زيادات المترو.
ارتفعت أسعار تذكرة المترو لتتراوح بين 3 و 7 جنيهات، بعدما كانت جنيهين فى السابق، وجنيه واحد قبل ذلك، ومن الطبيعى أن تنعكس تلك الزيادة التى وصلت إلى 700% فى أسعار التذاكر على الأداء المالى للشركة المصرية لإدارة وتشغيل مترو الأنفاق.
وهنا ينبغى توجيه سؤالين، الأول هل وضعنا نظاماً لمراقبة أداء إدارة الشركة خلال الفترة المقبلة التالية لقرار زيادة سعر التذكرة، للحكم على مدى قدرة الإدارة على الاستفادة من تلك الزيادة فى التحّول لتحقيق الأرباح، أو على الأقل تحقيق فائض تشغيل؟ والثانى هل تأكدنا قبل تحريك أسعار التذكرة أن السبب الرئيسى وراء الخسائر هو انخفاض سعر الخدمة، وليس سوء الإدارة؟
هذين السؤالين يعبران عن «المنطق» فى أية عملية إعادة هيكلة وإصلاح لأى مرفق أو مؤسسة أو شركة.
فمصر تمتلك 25 هيئة اقتصادية لها موازنات مستقلة، تعانى 44% منها من الخسائر، بإجمالى خسائر تتخطى الـ13 مليار جنيه سنوياً وفقاً لمشروع موازنة العام المالى الجديد 2018/2019.
وجميع هذه الهيئات الخاسرة لها سجل طويل من الخسائر خلال السنوات السابقة، وبدراسة أسباب الخسارة فى كل هيئة من تلك الهيئات تم الكشف أن السبب المشترك لخسائر تلك الهيئات هو الخلل الإدارى خلال السنوات الماضية الذى ترتب عليه تضخم هيكل الموظفين، وسوء التخطيط للمستقبل، بالإضافة لانخفاض أسعار الخدمات.
ونرى حالياً قرارات حكومية جريئة بتحريك أسعار الخدمات فى أغلب الهيئات والمرافق، وبالتحديد هيئة السكك الحديدية، وهيئة النقل العام، ومرفق المترو، وهذا التوجه يمثل مسارًا إجباريًا لمعالجة سبب واحد من 3 أسباب رئيسية أدت للخسارة.
وأتساءل هل وضع صناع القرار فى الدولة فى اعتبارهم السببين الآخرين لتحقيق الخسارة وهما تضخم هيكل الموظفين، وسوء التخطيط للمستقبل؟
إذا كانت الإجابة بـ«نعم» فبكل تأكيد نحن نسير فى الاتجاه الصحيح، وإذا كانت الإجابة بـ«لا» فبكل تأكيد نحن نسير فى الاتجاه الخاطئ، وسنصبح كمن يلاحق هدفاً متحركاً كلما اقترب منه ابتعد الهدف مرة أخرى.
لذا أطالب كافة قيادات هذه المرافق، والوزراء المسئولون عنهم، بالكف عن تقديم أية مقترحات لرفع أسعار الخدمات على المواطنين إلا بعد تقديم دراسة واضحة تُحدد المسار المتوقع للهيئة أو المرفق بعد تطبيق الزيادة.
مع الالتزام أمام القيادة السياسية فى الدولة بتحقيق هذا المسار، والإقرار بتحمل نتيجة أى إخفاق أو تراجع مستقبلى يأتى فى ظروف طبيعية غير استثنائية، مع الاستعداد لتحمل العقاب، فليس من العدل على الإطلاق أن ترتفع أسعار الخدمات ويستمر نزيف الخسائر.
هكذا تدار كل الاقتصاديات الناجحة حول العالم، فلا يمكن بأية حال من الأحوال أن تطبق حكومة اليابان أية زيادة فى أسعار الخدمات المقدمة للمواطنين إلا بعد أن تقوم بعرض خطة لتصويب أوضاع المرفق، واستثمار العائد من زيادة السعر، على المواطنين، وتلتزم الجهة المسئولة بتحقيق تلك الخطة.
كذلك الأمر بالنسبة للولايات المتحدة التى تعقد جلسة استجواب لكل مسئول عن هيئة يقترح زيادة سعر الخدمة التى تقدمها، ويتم إجراء تحليل ودراسة منضبطة لأوضاع تلك الهيئة لاستبعاد أية أخطاء بشرية تكون هى السبب الرئيسى فى الخسائر المحققة.
لذا تتسم تلك الحكومات بأعلى مستويات الشفافية مع المواطنين، الأمر الذى يساهم فى تقبل المواطن للزيادة، على اعتبار أنه يعلم جيداً موقف المرفق، وكيفية استغلال تلك الزيادة فى تحسين المؤشرات المالية للهيئة المستفيدة، ويمتد الأمر لمراقبة المواطن نفسه لأداء المرفق سواء مالياً أو فنياً، ويقوم بتقديم الشكاوى للجهات المختصة إذا وجد أى تقصير.
مصر اليوم تتقدم للأمام بشهادة العالم أجمع، لذا ينبغى على الجميع أن يساندها، وعلى كل مسئول ضعيف غير قادر على أداء دوره بالشكل الأمثل أن يتراجع ويتقدم باستقالته فوراً، فالمواطنون تحملوا كثيراً من أجل رؤية نتائج إيجابية حقيقية على أرض الواقع، بعيداً عن سياسة التصريحات الإعلامية الرنانة، والأهداف المضيئة التى لم يُحدد الطريق إليها بعد.
لم نعد نملك رفاهية الوقت من أجل التجربة، ولا المواطن قادر على تحمل أية زيادات جديدة فى أسعار الخدمات، تكون ناتجة عن تراخٍ فى الأداء الإدارى، أو أخطاء بشرية كان يمكن تلاشيها بتغيير الأشخاص أو تعديل الأساليب.
وأدعو القيادة السياسية وأنا أعلم مدى نزاهتها أن تضرب بيد من حديد على كل مسئول متكاسل يتسبب فى تحقيق خسائر غير مبررة، ومحاسبة كل من يساهم فى تدهور أى من الهيئات أو الشركات التى تمتلكها الدولة، لأن المواطن هو الذى يدفع الثمن فى النهاية من قوته وقوت أبنائه.
المصدر : جريدة المصري اليوم القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع