توقيت القاهرة المحلي 13:53:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

صرخة نزار قباني

  مصر اليوم -

صرخة نزار قباني

بقلم - سوسن الأبطح

«نعم أنا كذلك... واحد من هؤلاء الذين يقرأون كتباً نظرية عن الثورات والشعوب. واحد من الذين لم يكونوا في قرية أمامية. واحد من الذين يجترون الأحلام الوردية»، تقول إحدى شخصيات سعد الله ونوس في مسرحيته الرائعة «حفلة سمر من أجل 5 حزيران»، التي كتبها بعد نكسة 67، وبقيت ممنوعة من العرض حتى عام 73، رغم أنها نالت جائزة وزارة الثقافة في سوريا حينها. لم تحتمل السلطات حتى أن تنتقد أدبياً على خيبتها، مع أن العمل لم يعف أحداً، لا من التسبب في الهزيمة الماحقة ولا من تبعاتها الكاسحة: «انظر كيف أري الأشياء: إني (أنا) هروبهم. إنك هروبهم. إننا هروبهم، إننا الهرب ذاته... إنني مسؤول. إنك مسؤول. كلنا مسؤولون. ما من أحد يستطيع أن يجد هذه المرة مخبأ من المسؤولية». لم يسعف كل هذا في السماح للمكتوب بأن يصبح حياً على الخشبة، يتفاعل معه الناس ويشاركون المؤلف والممثلين رؤاهم وأحلامهم، وهو ما كان يرمي إليه الكاتب مؤمناً، بعد عودته من فرنسا ومشاركته في ثورة مايو (أيار) 68، بما كان لها من زخم وقوة دفع، بأن الشعب هو صاحب الكلمة، وأن الناس يصنعون مستقبلهم. في النهاية، انتصر ونوس، جزئياً. وفردياً، مضى في كتابة مسرحياته المشربة بروح السياسة حتى النخاع، والفياضة بعدالة إنسانية مشعّة، حتى أطفأ جسده السرطان، متوجاً كأديب لا يهادن ولا يتنازل. وخسرت الأمة جمعاء فرصة فتح الباب، في الوقت المناسب، لمن يناضلون بعقولهم ومشاعرهم وأجنحة أخيلتهم.
لم تكن هذه المسرحية جريئة فقط، كانت مبتكرة في أسلوبها ولغتها ونبضها. فصاحبها كان مؤمناً بأنه «لا يحق لشعب أن يصير مجرد ظل باهت يرتاد المقاهي، ويستمع إلى نواح الأغاني». وهو ما حدث بعد ذلك، وكأنه كان يستشرف مشهد النراجيل الممتدة على طول المنطقة العربية.
كان ثمة انتفاضة أدبية. وأفضل كتابات أدونيس ومحمود درويش وسعدي يوسف وخليل حاوي ومحمد الماغوط، هي ابنة تلك الفترة المفصلية بعد نكبة بقي على أثرها العرب محتفظين بالأمل والحماسة للتخلص من الاستعمار في فلسطين، كما في لبنان وسوريا ومصر، وحتى الجزائر، لتأتي هزيمة مدوية تدمر ثلاثة أرباع سلاح الجو المصري فجر 6 يونيو (حزيران)، ويطوق الجيش الإسرائيلي القدس الشرقية، قبل دخول المدينة القديمة في اليوم التالي، ويسطو على سيناء والضفة الغربية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان.
لم تكن الصدمة كافية لتطفئ كل بصيص ضوء، الأمل بقي يقظاً. إسرائيل ليست المسؤولة عن منع رواية صنع الله إبراهيم التي حملت عنوان «67». سجن الرجل خمس سنوات، وحجبت روايته، ولم ينشرها إلا بعد 45 سنة، في وقت متأخر جداً، حيث لم ينتبه كثيرون إليها، ولا إلى مضمونها. فكل في وقته له رهجه، وما ينتظر قد لا يجد الصدى نفسه، ولا التأثير عينه. فبطل صنع الله الصحافي اليساري الذي يخرج من السجن، ويأخذ يدوّن يومياته على مدى 13 فصلاً، يسكن مع أخيه وزوجته، ويقع في عشق المرأة المحرمة التي لها هي الأخرى علاقات عدة. ينساب في سلوكياته المنحرفة، تحت جنح الظلام، بينما تدور أحداث الحرب ومأساوية أخبارها. شيء من تلك النهاية التي نراها لا تعاقب مذنباً، ولا تكشف منحرفاً أو مرتكب خطأ، تتكرر اليوم في الأعمال السينمائية والتلفزيونية، وكانت رواية «67» قد قرأت هذه الاستباحات الأخلاقية، تخرج وقحة من ذيول الهزيمة، قبل نصف قرن.
أن تحرم من رؤية ما كان قد استشرفه أدباء تلك المرحلة في حينه، هو ضرب من الزيف وطمس الحقائق، وتضميض للعيون. أعمال كبيرة حجبت عمن كانوا بحاجة لأن يستنهضوا أو يستفزوا ذهنياً، لا عاطفياً بالخطابات العاطفية الرنانة. وتجربة نجيب محفوظ مع رائعته «أولاد حارتنا»، التي كتبت بعد «النكبة» و«ثورة يوليو»، سابقة لما حدث مع ونوس وإبراهيم وآخرين، وكان لا بد أن ينتظر عام 62 ليصدرها عن «دار الآداب» في بيروت، ولم يتح له نشرها في مصر إلا سنة 2006. صحيح أن الرواية بقيت مثار جدل لاتهامها بأنها تمس جانباً دينياً حساساً، لكنها تحمل نقداً عميقاً لممارسات اجتماعية وسياسية في زمن الثورة، التي يفترض أنها كانت دائماً على حق.
لائحة الحجر على العقول والكلمات مديدة وموجعة، ونتائجها وخيمة. يقال إن تكميم الأفواه مستحيل، والحق ينتصر دائماً، والحرية تكسر الأصفاد، وهذا إنشاء جميل ومريح. إنما لنا بعد كل ما ذقنا، أن نعيد قراءة الصفحات المظلمة في مسار الفكر قبل الحرب، والخطة قبل المعركة. كانت الطائرات العربية أكثر عدداً من تلك التي في حوزة إسرائيل في حرب 67، والدبابات أشد وفرة، والمقاتلون ضعف ما للعدو. ومع ذلك، انهارت الجيوش العربية في غضون ساعات. وولدت رغم ذلك، وبعد كل هذا الألم، كتابات أدبية مستنيرة، تحاول أن تقول ما تراه قناعاتها بجماليات توقظ الضمير وتداوي الانكسار على طريقتها. نزار قباني أحد أبرز هؤلاء الكبار، لكنه حين كتب قصيدته «هوامش على دفتر النكسة»، وهي فاتحة كتاباته السياسية، منع من دخول مصر. تألم لذلك كثيراً، وغضب، وكتب للرئيس جمال عبد الناصر: «إذا كانت صرختي حادة وجارحة، وأنا أعترف سلفاً بأنها كذلك، فلأن الصرخة تكون في حجم الطعنة، ولأن النزيف بمساحة الجرح... ولا أريد أن أصدق أن مثلك يعاقب النازف على نزيفه، والمجروح على جراحه، ويسمح باضطهاد شاعر عربي يريد أن يكون شريفاً وشجاعاً... فدفع ثمن صدقه وشجاعته».
أليس من المحزن والمعيب أن تكون رسالة نزار قباني التي دبّجها باسم كل من طالتهم الظلامة، لا تزال إلى اليوم مجرد صرخة في واد.


نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

 

GMT 01:13 2019 الخميس ,16 أيار / مايو

التوافق ينتصر للسودان .. والمعركة مستمرة

GMT 01:12 2019 الخميس ,16 أيار / مايو

مصر الفيدرالية

GMT 01:06 2019 الخميس ,16 أيار / مايو

فاتورة الحرب.. مدفوعة مقدمًا!

GMT 05:30 2018 السبت ,01 كانون الأول / ديسمبر

مشاكل ترامب أمام القضاء الأميركي

GMT 05:29 2018 السبت ,01 كانون الأول / ديسمبر

من مفكرة الأسبوع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

صرخة نزار قباني صرخة نزار قباني



يتميَّز بطبقة شفّافة مُطرّزة وحواف مخملية

كورتني كوكس تُهدي فُستانًا ارتدته قبل 20 عامًا لابنتها كوكو

نيويورك ـ مادلين سعاده

GMT 03:24 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

"دولتشي آند غابانا" تُقدِّم عبايات لخريف وشتاء 2019
  مصر اليوم - دولتشي آند غابانا تُقدِّم عبايات لخريف وشتاء 2019

GMT 06:16 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

أغلى فيلا في تايلاند مقصد للمشاهير ومُحبي الفخامة
  مصر اليوم - أغلى فيلا في تايلاند مقصد للمشاهير ومُحبي الفخامة

GMT 09:04 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

ديكورات مستوحاة من الطبيعة للجلسات الخارجية
  مصر اليوم - ديكورات مستوحاة من الطبيعة للجلسات الخارجية

GMT 02:48 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

أرخص 10 بلدان أوروبية لقضاء عُطلة صيفية لا تُنسى
  مصر اليوم - أرخص 10 بلدان أوروبية لقضاء عُطلة صيفية لا تُنسى

GMT 03:37 2019 الأحد ,16 حزيران / يونيو

7 محظورات و 5 نصائح لتأثيث غرف نوم مميزة للأطفال
  مصر اليوم - 7 محظورات و 5 نصائح لتأثيث غرف نوم مميزة للأطفال
  مصر اليوم - رفض دعاوى بي إن القطرية ضد عربسات بشأن بي أوت

GMT 22:42 2019 الجمعة ,31 أيار / مايو

البورصة الأردنية تنخفض 0.33 % في أسبوع

GMT 09:01 2019 الأربعاء ,29 أيار / مايو

توقعات ببيع 28 مليون سيارة في الصين بنهاية 2019
 
Egypt-Sports

All rights reserved 2024 Arabs Today Ltd.

All rights reserved 2024 Arabs Today Ltd.

egyptsports egyptsports egyptsports egyptsports
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon