بقلم - محمد السعيد إدريس
عندما وصفت صحيفة «صانداى تايمز» البريطانية الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بأنه «ثور هائج فى متجر خزف» فى مقال للكاتب دانيال فيرجسون تعليقاً على الإرباك الذى أحدثه ترامب فى القمة الأخيرة للدول السبع الصناعية الكبرى كانت تلمح إلى مدى الخطر الذى يتهدد الاتحاد الأوروبى من جراء سياسات أمريكية مفاجئة إذا ما استمرت العلاقة التقليدية التى تربط الاتحاد الأوروبى بالولايات المتحدة، وكانت تريد أن تحفز دول الاتحاد على اتخاذ مبادرات بسياسات بديلة جديدة تعطى الاتحاد الأوروبى قدراً أكبر من الاستقلالية فى تبنى سياسات ورؤى اقتصادية وأمنية لا تنسجم بالضرورة مع ما تريده واشنطن، لكن تباين الرؤى وتعارض المصالح الذى كشفته القمة الأوروبية الأخيرة التى استضافتها المفوضية الأوروبية فى بروكسل (27/6/2018) يؤكد أن طموح «أوروبا الموحدة»، الذى عبر عنه أكثر من مسئول أوروبى كبير خاصة وزير الخارجية الألمانى هايكو ماس، مازالت تحول دونه عقبات، بل إن هناك من هم أكثر تشاؤماً ويتحدثون عن احتمال انفراط رابطة الاتحاد الأوروبي، واحتمال انسحاب دول محورية أخرى من الاتحاد على نحو ما فعلت بريطانيا. هذا الاحتمال الأخير جرت الإشارة إليه على لسان صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية (29/6/2018) عندما كتبت أن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب عرض على نظيره الفرنسى إيمانويل ماكرون، عند زيارة الأخير لواشنطن فى أبريل الماضي، الخروج من الاتحاد الأوروبي، على أن يتم التوصل إلى اتفاق تبادل ثنائى مع الولايات المتحدة، ونقلت الصحيفة عن اثنين من المسئولين الأوروبيين أن ترامب قال لماكرون: «لماذا لا تخرج من الاتحاد الأوروبي». لم تتحدث الصحيفة، ولو فى إشارة عابرة، عن رد ماكرون على هذا القول، كما لم تشر إلى دفاع ماكرون فى زيارته تلك لواشنطن أمام الكونجرس الأمريكى عن الموقف الأوروبى الموحد للثلاثي: ألمانيا وفرنسا وبريطانيا من الاتفاق النووى الموقع مع إيران على خلاف الموقف الأمريكى الرافض لهذا الاتفاق، كما أنها لم تركز على أن لقاء ترامب مع ماكرون جرت بعده مياه كثيرة فى مجرى العلاقات الفرنسية- الأمريكية، خاصة صدمة ماكرون ورفاقه فى قمة الدول الصناعية السبع من تصرفات ترامب وإصراره على فرض رسوم جمركية مرتفعة على الواردات الأمريكية من منتجات الصلب والألومنيوم من تلك الدول، وهى تصرفات، أدت فى مجملها إلى تباعد فرنسي- أمريكى وتقارب فرنسى مع ألمانيا وبريطانيا وتحفيز هذه الدول على الأخذ بشعار «أوروبا الموحدة» فى مواجهة شعار ترامب «أمريكا أولاً»، على نحو ما عبرت عنه القمة الثنائية بين ماكرون والمستشارة الألمانية إنجيلا ميركل فى ألمانيا (19/6/2018) التى ناقشت الأساليب والآليات اللازمة لرفع مستوى التنسيق والإجراءات المشتركة لتعزيز وحدة الاتحاد الأوروبى ومنها إنشاء «مجلس أمن» خاص بالاتحاد الأوروبي.
هذا يعنى أن تيار التشاؤم من مستقبل التوحد الأوروبى يمكن أن يتراجع، رغم أن له أسبابه المنطقية أمام ضغوط واستفزازات خارجية، أغلبها أمريكى خصوصاً أن الرئيس الأمريكى لا يفوت مناسبة إلا ويهاجم فيها الاتحاد الأوروبي. كانت آخر هذه الهجمات «الترامبية» على الاتحاد الأوروبى مساء الأربعاء الماضى (27/6/2018) خلال تجمع فى ولاية داكوتا الشمالية عندما قال إن «الاتحاد الأوروبى وجد بالتأكيد للاستفادة من الولايات المتحدة»، وتأتى القمة الأمريكية ـ الروسية المقبلة بين ترامب والرئيس الروسى فلاديمير بوتين يوم 16 يوليو الحالى فى العاصمة الفنلندية هلسنكى لتضع دول الاتحاد الأوروبى أمام تحديات جديدة يمكن أن تتوصل إليها تلك القمة الأمريكية- الروسية، وبالذات السؤال المهم: أين الاتحاد الأوروبى من الهندسة الجديدة التى يجرى إعدادها لقيادة النظام العالمي؟.
هذا السؤال المحورى يثير تحديات صعبة أمام الاتحاد الأوروبى فإما أن يقبل أن يكون قوة تابعة للولايات المتحدة فى اندفاعها نحو تبوؤ قيادة عالمية أحادية أو متعددة الأطراف بمشاركة أطراف دولية كبرى تنازعها القوة مثل الصين وروسيا، وإما أن يكون طرفاً دولياً شريكاً فى قيادة عالمية جماعية متعددة الأطراف تكون أوروبا قادرة من خلالها على حماية مصالحها. هناك حتماً صعوبات أمام القبول الأوروبى بأى من الخيارين فكل منهما له مكاسبه وله أيضاً تكاليفه، لكن التضرر الأوروبى من السياسة الأمريكية التى لا تعبأ بمصالح الشركاء لا على المستوى الاقتصادى ولا على المستوى الأمنى قد يدفع أوروبا إلى قبول التحدى والخوض فى خيار أوروبا الموحدة، والعمل على فرض أوروبا شريكاً فى قيادة عالمية، وربما يؤدى هذا الخيار إلى توجه أوروبا إلى مراجعة سياساتها الأمنية وعلاقاتها مع روسيا على وجه الخصوص.
وإذا كانت القمة الأوروبية الأخيرة فى بروكسل قد شهدت تنازعا حادا حول الموقف من الهجرة غير القانونية واللاجئين بين دول الاتحاد الأوروبي، وصل إلى درجة قول المستشارة الألمانية إن «أوروبا تواجه كثيراً من التحديات، لكن تلك المرتبطة بمسألة الهجرة قد تقرر مصير الاتحاد الأوروبي»، فإن هذه القمة شهدت أيضاً توجهاً أوروبياً فريداً فى مسائل الدفاع الأوروبى المستقل عن حلف شمال الأطلسى (الناتو) حيث أقر القادة الأوروبيون المشاركون بتلك القمة قوائم مشاريع التطوير العسكرية المشتركة بين عدد من هذه الدول، وصندوق الدفاع المشترك و»آلية التعاون الدائمة بين دول الاتحاد لتنفيذ عمليات عسكرية تتوافق مع مقتضيات القانون الدولي»، وكلها مشاريع تأتى على قاعدة التشكك الأوروبى فى النيات الأمريكية من حلف شمال الأطلسى الذى لم يتردد الرئيس الأمريكى دونالد ترامب عن وصفه بأنه «سيئ» أمام شركائه فى قمة الدول الصناعية السبع الأخيرة التى عقدت فى كندا.
ضمن هذا الإدراك ستراقب أوروبا قمة ترامب- بوتين فى هلسنكى خاصة أنها ستأتي، أى القمة، عقب مشاركة ترامب للقادة الأوروبيين فى قمة لحلف شمال الأطلسى فى بروكسل (11-12/7/2018) يعقبها قيام ترامب بزيارة إلى بريطانيا. ففى قمة حلف الأطلسى سوف يكون الشركاء الأوروبيون أكثر حرصاً على فهم نيات الرئيس الأمريكى حول «الأمن الجماعي» للشركاء ضمن حلف الناتو وعلاقته بالمصالح الاقتصادية المشتركة، كما ستتابع ترامب فى زيارته لبريطانيا قبل لقائه فى قمة هلسنكى مع بوتين وهى القمة التى من المرجح أن تناقش العلاقات الأمريكية- الروسية إلى جانب ملفات دولية أساسية ومسائل مرتبطة بالأمن القومى للبلدين. نتائج هذه القمة بين ترامب وبوتين ومحصلة جولة ترامب فى أوروبا وسياساته العدوانية ضد أوروبا سوف تساعد دول الاتحاد الأوروبى على حسم خياراتها الإستراتيجية مع الولايات المتحدة وبالتحديد موقف الاتحاد الأوروبى من خيار «أوروبا موحدة» وخيار أوروبا «قوة عالمية».
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع