بقلم - محمد السعيد إدريس
دأبت الولايات المتحدة الأمريكية، منذ أن تولى دونالد ترامب مقاليد الحكم، على أن تضرب عرض الحائط بالاتفاقيات والمواثيق الدولية سواء كانت جماعية أو كانت ثنائية بين الولايات المتحدة وأطراف دولية أخرى أخذاً بمبدأ «أمريكا أولاً» الذى اعتمده ترامب شعاراً لحملته الانتخابية، وهو شعار اعتمد، عند ترامب على مبدأ آخر يعتمده منهجاً فى إدارة العلاقات الأمريكية مع دول العالم وهو «القوة فوق القانون»، وإذا استمرت اعتماد الإدارة الأمريكية على هذين المبدأين «أمريكا أولاً، والقوة فوق القانون» فإن النظام العالمى سيواجه خطر الانهيار وهذا ما حذرت منه المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل تعليقاً على قرار ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق النووى الموقع مع إيران فى فيينا (14 يوليو 2015) وهو الانسحاب الذى اعتبرته «انتهاكاً للنظام الدولي»، وقالت خلال حضورها احتفالية بمدينة مونستر غرب ألمانيا (11/5/2018) إنه «رغم أن الاتفاق النووى مع إيران ليس مثالياً بالمرة، لكننى أعتقد أنه ليس من الصحيح أن ينهى طرف ما بصورة أحادية اتفاقاً أبرم، وتم التصويت عليه من قبل مجلس الأمن، وصادق عليه المجلس بالإجماع (القرار رقم 2231). فهذا يزعزع الثقة فى النظام العالمي».
قبل أن يصدر ترامب قرار الانسحاب من الاتفاق النووى مع إيران (8 مايو 2018) كانت إدارته قد تعمدت ممارسة انتهاكات للعديد من الاتفاقيات ابتداءً من قرار الانسحاب الأمريكى من اتفاقية باريس حول المناخ، ما يعنى عدم اكتراث واشنطن للتدمير الذى يحدث للبيئة فى العالم وآثاره الكارثية، ثم قرار الانسحاب الأمريكى من اتفاقية الشراكة عبر الهادي ومن الاتفاقيات التجارية التى كانت تربط واشنطن بمجموعة من الدول الحليفة مثل كندا والمكسيك (النافتا)، وانخرطت فى فرض عقوبات اقتصادية شديدة ضد روسيا والصين، وامتدت هذه العقوبات إلى الحلفاء الأوروبيين، ثم جاء قرار ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيونى ونقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى المدينة المقدسة ليمثل ذروة التحدى الأمريكى للقانون الدولى والمواثيق الدولية التى تعتبر القدس الشرقية والضفة الغربية وغزة أرضاً محتلة.
كل هذا يعنى أن الولايات المتحدة تواصل إصرارها على أن تكون، بل وأن تبقى، «دولة مارقة» غير عابئة بالقوانين والمعاهدات والاتفاقيات الدولية والمعنى الوحيد لكل هذه الممارسات أن يعود العالم بدائياً فى ممارساته وسلوكياته بعد أن وصل إلى ذروة التقدم والرقى العلمي، وهنا الخطر. كان العالم بدائياً فى ممارساته وسلوكياته، وكان هذا مقبولاً عندما كان ذلك يحدث فى ظل تدنى القدرات والمعارف وبدائية الحياة وأدواتها، لكن أن يدخل العالم مرحلة «اللا نظام» و«الفوضى» مع امتلاكه أحدث أنواع القوة وأكثرها فتكاً فهذا يعنى أن العالم ينحدر إلى ذروة الخطر، إذ ما الذى يمنع رجلاً مثل ترامب، وغيره من «الترامبيين» أمثال بنيامين نتنياهو رئيس حكومة الكيان وأمثاله من اللجوء إلى استخدام الأسلحة النووية فى حل النزاعات والأزمات أو استخدام ما يفوقها خطراً من الأسلحة الأخرى الأكثر فتكاً وتدميراً. خصوصاً بعد أن أعطى ترامب تعليماته بإنتاج أسلحة نووية تكتيكية يمكن استخدامها فى الصراعات الدولية وخصص ميزانية هائلة لإنتاج مثل هذه الأسلحة.
منذ سنوات قليلة مضت كان العالم يحذر من خطورة أن تصل أسلحة دمار شامل كيماوية أو نووية إلى أيدى المنظمات الإرهابية، اعتقاداً بأن من يقودون هذه المنظمات ليس لديهم من الانضباط الأخلاقى والعقلى ما يحول دون استخدامهم هذه الأسلحة لتحقيق أهداف يؤمنون بها، الآن يعتبر وضع الولايات المتحدة تحت رئاسة دونالد ترامب أشد خطورة على الأمن والسلم الدوليين من هذه المنظمات الإرهابية ولم يعد ممكناً أن يترك لهذا الرجل وإدارته من الجنرالات المتقاعدين الذين يقودون الوزارات السيادية فرصة تدمير العالم وإسقاط النظام العالمي، وهذا يقودنا إلى السؤال الصعب: كيف؟
رغم صعوبة الإجابة فإن اللجوء إلى التاريخ، الذى يعد ذاكرة العالم، ربما يقدم لنا مفاتيح للإجابة. فهذه ليست هى المرة الأولى التى تمارس فيها الولايات المتحدة دور الدولة المارقة، مارسته ضد فيتنام فى عقد الستينيات من القرن الماضي، ومارسته قبلها عام 1945 عندما قصفت اليابان بالقنبلة الذرية مرتين، ومارسته ضد أفغانستان والعراق عامى 2002 و2003 على التوالي، وعندما كانت تمارس هذا الدور كانت تمارسه بدافع من غرور القوة، وامتلاكها القدرة المتفوقة على كل القوى العالمية المنافسة، أى أن اختلال توازن القوة يعتبر سبباً مباشراً لتورط الدولة المتفوقة فى ممارسة دور الدولة المارقة، لكن التاريخ يؤكد لنا أيضاً أن هذه الدولة الأمريكية المارقة كانت تتراجع عن هذا الدور بل وتنكمش داخلياً وتضطر فى بعض الأحيان إلى اتخاذ قرارات تحرِّم عليها إرسال أى قوات أمريكية للقتال خارج الأراضى الأمريكية.
حدث هذا إثر الهزيمة الأمريكية فى فيتنام وصدر «مبدأ نيكسون» ليعبر عن مثل هذه القناعة الأمريكية أى التوقف عن إرسال قوات أمريكية خارج الأراضى الأمريكية إلا فى حالة استثنائية وهى الدفاع عن «مصالح حيوية» أى مصالح لها علاقة بـ «حياة الشعب الأمريكي». وقبل ذلك اضطرت الولايات المتحدة إلى الانضباط فى استخدام القوة والغطرسة بعد أن استطاع الاتحاد السوفيتى كسر اختلال توازن القوة مع الولايات المتحدة، وفرض «توازن الرعب النووي» على واشنطن، واستطاع بذلك ردعها عن التمادى فى دور الدولة المارقة، واضطرت الولايات المتحدة إلى أتباع سياسة انكماشية بعد الأزمة المالية الاقتصادية التى هزت بعنف الاقتصاد الأمريكى عام 2008، ولولا التمويل الهائل الذى ضخته السعودية ودول أخرى فى الاقتصاد الأمريكى فى بداية عهد دونالد ترامب لكانت الولايات المتحدة قد تعرضت لمخاطر كبرى.
هذا يعنى أن كل استعلاء أمريكى عادة ما يعقبه سقوط أو تراجع لكن هذا لا يحدث تلقائياً بل يحدث نتيجة وجود توازن جديد فى القوة بين الولايات المتحدة وغيرها من القوى الدولية، أو تعرض الولايات المتحدة لتهديدات قوية لمصالحها جراء تلك السياسات الخاطئة، لكن يبقى الرأى العام الأمريكى ويبقى المجتمع الأمريكى هو القوة الأهم فى فرض المراجعة للسياسات الخاطئة، وهذا لا يحدث أبداً، إلا بعد أن يشعر الرأى العام الأمريكى والمجتمع الأمريكى بمختلف مكوناته أن من يحكمونه أضحوا مصادر للتهديد أو أخطر مصادر التهديد للمصالح الأمريكية، وهذه مسئولية كل العالم، أن يجعل الشعب الأمريكى يدرك أنه أضحى فى خطر فى ظل ممارسة واشنطن لدور الدولة المارقة، وأن العالم كله يقف فى وجه هذه الدولة المارقةهذه هى مسئولية كل العالم الآن.
نقلا عن الاخبار القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع