بقلم - د. محمد السعيد إدريس
لم يشفع للرئيس الأمريكى دونالد ترامب ما استطاع اقتناصه من مكاسب كبيرة من نظيره الروسى فلاديمير بوتين خلال قمتهما الرسمية الأولى التى عُقدت يوم الاثنين الماضى بالعاصمة الفنلندية هلسنكى وعلى الأخص فى ملفى سوريا وإسرائيل، ولكنه تعرض لما يمكن وصفه بأنه «أسوأ هجوم» تعرض له رئيس أمريكى فى تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية. ولعل هذا ما يغرينا، ويغرى الكثيرين، خاصة من دارسى العلاقات الدولية للبحث فيما هى المسائل والأمور والقضايا التى لا يسمح «العقل الإستراتيجى الأمريكي» بالتهاون فيها، أى التى تقع على رأس ما يمكن تسميته بـ «المحظورات» الأمريكية، كى يتسنى لنا فهم هذا العقل الأمريكى وكيف يتعامل مع العالم، وهل هو «عقل سليم» من منظور الصحة النفسية أم هو «عقل مريض» أو على الأقل «يعانى اضطرابات فى الإدراك» وهذا ما يجعله «عدوانياً» و«استعلائياً» و«متغطرساً» إلى أقصى الحدود حتى مع أقرب الحلفاء.
البحث فى هذا الأمر يمكن أن يقدم لنا إيضاحات وإضاءات لما سبق أن تحدثنا عنه من فرضية احتمال أن تكون قمة هلسنكى بين ترامب وبوتين مقدمة للتأسيس مجددا لنظام عالمى جديد أكثر اعتمادا على التعاون المتبادل وليس الصراع خصوصا بين واشنطن وموسكو. فردود الفعل الأمريكية الغاضبة والعنيفة التى تفجرت ضد الرئيس ترامب عقب مؤتمره الصحفى مع نظيره الروسى فلاديمير بوتين تكشف جانباً مهماً من هذه القضية التى نعنيها أى «الخطوط الحمراء للعقل الإستراتيجى الأمريكي». فقد ووجه ترامب بعاصفة أمريكية جامحة من «الإهانات»، استخدمت فيها، ربما للمرة الأولى تعبيرات من نوع «مشين» و«خيانة» و«الضعيف»، وغير المسئول» و«جريمة كبري» تعليقا على أداء ترامب فى المؤتمر الصحفى وتعليقاته التى نفى فيها تورط روسيا فى أعمال قرصنة ضد الحزب الديمقراطى الأمريكى أثناء حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية التى جرت عام 2016 وفاز فيها دونالد ترامب على منافسته الديمقراطية هيلارى كلينتون. فإلى جانب هجوم الصحافة، غير المسبوق، على الرئيس الأمريكى فإن مسئولين كبارا من قادة الكونجرس من الديمقراطيين، بل وحتى من الجمهوريين الذين يفترض أنهم يمثلون الحزب الذى ينتمى إليه ترامب، تزعموا الحملة ضد ترامب وتركزت معظمها حول رد ترامب على سؤال حول عمليات القرصنة والتدخل الروسى فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية حيث رفض ترامب اتهامات أجهزة الاستخبارات الأمريكية لروسيا بهذا التدخل، وقال إن بوتين «قال إن روسيا لم تقم بذلك.. وأنا أقول : لا أرى سبباً لكى تكون روسيا هى الفاعلة». وقال «لدى ثقة كبيرة بالاستخبارات الأمريكية.. لكننى سأقول لكم إن نفى الرئيس بوتين اليوم كان شديداً جداً وقويا»، ورحب فى الوقت ذاته بعرض بوتين التعاون بين محققين روس ومدعين أمريكيين للتحقيق فى قضية اتهام 12 عنصراً من الاستخبارات الروسية كانوا قد اتهموا بارتكاب عمليات القرصنة تلك وقال «أعتقد أنه عرض رائع».
القادة الجمهوريون من حزب ترامب نافسوا قادة الديمقراطيين فى الهجوم على ترامب فالسيناتور جيف فليك كان تعليقه على أقوال وردود ترامب بخصوص هذه القضية: «هذا مخز، لم أعتقد يوماً أننى سأرى رئيساً أمريكياً يقف مع الرئيس الروسى ويحمِّل الولايات المتحدة مسئولية العدائية الروسية». وإذا كان زعيم الجمهوريين فى الكونجرس السيناتور ليندسى جراهام قد رأى أن روسيا ستعتبر رد بوتين «علامة ضعف» فإن الهجوم الجمهورى الأعنف جاء على لسان السيناتور جون ماكين الذى اعتبر لقاء ترامب مع بوتين «أسوأ اللحظات» وأنه «أسوأ الأداءات المخزية لرئيس أمريكى فى التاريخ» مشيراً إلى أن «الضرر الذى أحدثه ترامب بسذاجته وغروره ومساواته الزائفة (بين موسكو وأجهزة الاستخبارات الأمريكية)، وتعاطفه مع حكام متسلطين أمر يصعب تقديره»، وأكمل هجومه بقوله «لم يسبق لرئيس أن حط من قيمته بهذا القدر أمام طاغية».
إذا كان هذا موقف قادة حزب ترامب فلنا أن نتصور مدى عنف المنافسين الديمقراطيين والقادة السابقين لأجهزة الاستخبارات الذين هالهم انحياز ترامب لموقف الرئيس الروسى على حساب مصداقية أجهزة بلاده الاستخباراتية، وسؤالنا بهذا الخصوص هو لماذا كل هذه الثورة ضد ترامب: هل هى دفاع عن قيم الديمقراطية، التى يعتقدون أنها قد انتهكت أم هى اعتراض على تجرؤ الروس على انتهاك ما يعتبرونه «أموراً سيادية أمريكية» أم بسبب رفضهم محاولة ترامب «إذابة الجليد مع موسكو» ومحاولته أن يحقق بالدبلوماسية وفاقاً مع روسيا، أم أنها قبل هذا كله قضية ضرورة «أن تبقى أمريكا فوق الجميع»؟ الأمر المؤكد أن الأمريكيين غير مستعدين للتنازل عن التعامل مع العالم «من أعلي» أياً كان هذا العالم حلفاء (أوروبا، كندا ، اليابان) أم أعداء «روسيا، الصين، إيران»، المهم أن أمريكا هى فوق الجميع، ولعل هذا ما جعلهم يتجاهلون ما حصل عليه ترامب من قبول أشبه بـ «الاستسلام» من جانب الرئيس الروسى بخصوص قضايا تخدم بالمطلق حليفهم الإسرائيلى فى وقت يطلق فيه الكيان الصهيونى أخطر وثائقه الأيديولوجية بعد المؤتمر الصهيونى التأسيسى الأول فى بازل السويسرية عام 1897 الذى أطلق مشروع تأسيس دولة إسرائيل بتصديق «الكنيست» (البرلمان) على وثيقة لا تقل خطورة هى «قانون القومية» أو «قانون يهودية إسرائيل». فقد أقر بوتين أمام العالم كله بأمرين أرادهما ترامب يخصان إسرائيل أولهما العمل بشكل مشترك (مع الأمريكيين) للحفاظ على أمن إسرائيل، وتفعيل العمل باتفاق «فك الاشتباك» المتعلق بهضبة الجولان لعام 1974، فى محاولة لاستمرار فرض الاحتلال الإسرائيلى للجولان وتعهد روسيا بمنع الجيش السورى من العمل من أجل تحريرها، والثاني، عدم السماح لإيران بالاستفادة من هزيمة «داعش» ما يعنى إقرار صفقة الإبقاء على روسيا فى سوريا مقابل إنهاء أى وجود إيرانى فيها، أو على الأقل إبعاد أى وجود إيرانى عن الحدود السورية مع الجولان لمسافة لا تقل عن 80كم.
لم يكترث الأمريكيون بذلك، ولم يكترثوا لتغاضى الرئيس الروسى وامتناعه عن التعليق ولو بتصريح واحد يرفض فيه إقرار الكنيست الإسرائيلى للقانون الذى يؤسس ويفرض إسرائيل كدولة قومية يهودية بكل ما يعنيه من فرض سيطرتها السيادية على كل أرض فلسطين ويحِّول الوجود العربى إلى مجرد «أقلية» وينهى كل فرص الحل السلمى العادل للقضية الفلسطينية. اعتبروا أن هذا كله تحصيل حاصل، وكان كل ما يعنيهم هو الدفاع عن «التفرد الأمريكى على كل العالم». حتى ولو كان بإهانة رئيسهم إهانة غير مسبوقة، هذه هى حقيقة، وربما أزمة، أمريكا كما كشفتها قمة هلسنكي.
نقلا عن الأهرام
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع