توقيت القاهرة المحلي 13:53:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الخبز الأسفنجي المُحَلَّى

  مصر اليوم -

  مصر اليوم - الخبز الأسفنجي المُحَلَّى

أحمد هيهات
أحمد هيهات

عندما كان سعيد طفلًا صغيرًا كانت الدنيا الفسيحة القبيحة تبدو له من سذاجته متحفا فائق الترتيب والانسجام، مليئا بتحف رائعة وأشياء غريبة مذهلة مدهشة، وكانت دهشته تزداد وتتجدد كلما وقع بصره على شيء جديد فكانت الأسئلة تتناثر وتتناسل بلا حدود، والفضول للمعرفة واكتشاف الأسرار  يتزايد ويكبر والأجوبة التي يتلقاها على كثرتها وتنوعها واختلافها لا تقنع ولا تشفي الغليل. 

ومن فرط تفاؤله أو ربما من غرابة سذاجته لم يكن يحفل بالفروق الوهمية التي يتواضع عليها الناس ثم يخضعون لها ويحترمونها حد القداسة، فقد كانت الكلمات في فهمه وتصوره مجرد اصطلاحات وتواضعات مفتعلة ومحشوة بدلالات ومعاني بشكل قسري وصورة إجبارية لا تلزم إلا من أَلزَم نفسه  بها. أما هو فقد كان في حل من هذه الالتزامات كلها، فكل ما يقع تحت بصره ملك له يتصرف فيه كما يحلو له دون أن ينتظر إذنا من أحد، وكل الحقائق التي يخضع لها الناس ويؤمنون بها ويعيشون تحت تأثيرها وبتوجيهها مجرد أوهام أضفى عليها الناس وجودا مزيفا، أما الحقيقة الوحيدة التي يؤمن بها سعيد ويخضع لها فهي أن الحقيقة المطلقة مجردة عن التسمية، مستعصية عن الوصف، متعالية عن الوسم والتحديد. 

وقد أضحى سعيد في الحاضر ميّالا في كثير من الأحيان إلى الفرار من جحيم الواقع الحقيقي إلى جنة الواقع الافتراضي التي يرتادها من خلال استعادة لحظات الطفولة وما يوَشّيها من براءة وسعادة تجعل الحياة في عينيه نظيفة جميلة بتولاً لم تدنسها أنانية الناس وانتهازيتهم، وقد كان ينتابه هذا الشعور في أحلك لحظات حياته، فتراه جالسا على الرمال الذهبية الحارقة التي لم تعد قدماه – من كثرة وطول الاكتواء بها – تستشعر حرارتها. 

وبعد ساعات من التجول والدوران في ما يشبه المتاهة، والمشي بين المظلات الصيفية حاملا فوق رأسه قبعة قديمة فقدت لونها الأصلي لصالح اللون الأبيض الرمادي، ولكنها ما زالت تحتفظ باسم حيوان يشير إلى نوع من أنواع الشاي الأخضر الصيني، وعلى كتفه صينية الخبز الاسفنجي الأجوف المحلَّى، الذي ذابت حبيبات السكر البيضاء التي كانت تزينه بفعل تناوب حرارتين؛ الأولى اصطناعية هي تلك التي تعرضت لها دوائر الخبز الاسفنجي أثناء الطبخ، والثانية طبيعية هي حرارة الشمس الصيفية. 

وبالرغم من مرور ساعات طوال لم يتمكن سعيد بعد من بيع ربع صينية الخبز، والشمس تزحف بخطى حثيثة نحو معانقة الأفق وبالتالي دفع الناس وإجبارهم على مغادرة الشاطئ إلى صباح اليوم الموالي، وما يعنيه ذلك من إمكانية كساد ما تبقى من الخبز الاسفنجي الأجوف المحلى. 

اضطر سعيد مع مرور الوقت إلى تخفيض سعر الخبز الاسفنجي المحلى حتى أضحى يبيع الاثنتين بسعر الواحدة، فتمكن بعد جهد جهيد من التخلص من كل الخبز بربح غير مغرٍ إلا أنه قد نجا من الخسارة المحدقة به، توجه سعيد بعد ذلك مباشرة إلى موقف الحافلات دون أن يفكر في أخذ حمام دافئ أو بارد لتخليص جسمه من حبيبات الرمل التي لا تترك مكانا من الجسم إلا ووصلت إليه واستقرت فيه، أو التخلص من كمية الملح التي تجمعت على أطراف جسمه بفعل ملامسة مياه الشاطئ، أو بفعل كميات العرق التي تهاطلت من جبينه على وجه الخصوص، فضلا عن عدم علمه ومعرفته بضرورة تنظيف الجسم من بقايا المراهم والكْريمات التي يستعملها البعض لحماية الجسم من ضرر الحرارة وتفاعلها مع الملح المنبعث من مياه البحر. 
بعيدا عن التفكير في هذه الأشياء الزائدة بدأ يفكر في كيفية الوصول إلى باب الحافلة أمام احتشاد العشرات من مرتادي الشاطئ أمامها يمنعهم مستخدَمو شركة النقل من الركوب إلا بعد أداء ثمن التذكرة، وبعد ذلك قضاء الرحلة واقفا إلى جانب الركاب الواقفين الذين يكاد عددهم يضاعف عدد الجالسين على المقاعد وأغلبهم من الشباب واليافعين والأطفال. 

تمكن سعيد بعد قضاء نحو الساعة يتزاحم دون رحمة ويتدافع بكل شدة وغلظة من ركوب الحافلة دون أن يتمكن من الظفر بمقعد فارغ، فاكتفى بالاستناد إلى أحد القضبان الحديدية، وبسبب شدة الإعياء والتعب استسلم سريعا لإغفاءة خفيفة راودته فيها أحلام غريبة رأى فيها حيوانات معتادة نزلت إلى الماء واستوطنته فنبتت لها زعانف بلورية وأذيال طويلة رشيقة وخياشيم عريضة، ورأى حيوانات أخرى اختارت ارتياد الجو فنشأت لها أجنحة قوية وريش ملون وأجسام انسيابية خفيفة ، وحيوانات أخرى فضلت العيش على اليابسة فبرزت لها أذرع وأرجل وقوائم وأصابع، ورأى نفسه حيوانا يريد اللحاق بحيوانات الماء فغرق ولم يحصل على لوازم الحركة فوق الماء والتنفس تحته. 

أثناء هذا الحلم المشاكس أيقظه صراخ مجموعة من الشباب اليافعين بأهازيج مختلفة مأخوذ أغلبها من مجموعات مشجعي فرق كرة القدم وما يصاحب هذه الأهازيج من ضرب موقع موجع على جنبات الحافلة لغاية في نفس الشباب يخفون من خلالها الرغبة في التخريب احتجاجا على أوضاعهم المختلة، ويظهرون الرغبة في مصاحبة اللحن بموسيقى مساعدة، غير أن واقعهم المرير يزداد مرارة بسبب تصرفاتهم الرعناء التي تغضب الركاب فيدخلون معهم في ملاسنات وسجالات ومشادات كلامية وسب وشتم ينتهي في أغلب الأوقات إلى الاحتكاك البدني والعنف المتبادل. 

اكتفى سعيد بعد يقظته من إغفاءته الخفيفة بمتابعة المشهد العبثي الذي يحدث أمام ناظريه فتصرف على سجيته كأي مهموم حزين شجي فحاول أن يضحك مغتصبا ابتسامة متمنعة يبللها بريقه الجاف، وأمام عبثية المشهد بين الطرفين المظلومين المتظالمين تمنى لو أنه يستطيع الهرب والعيش في الغابات الاستوائية الكثيفة العريضة وحيدا تمرح حوله الجواميس الوديعة والبقر الوحشي والفيلة الضخمة والدببة السوداء والبيضاء والضباع الحربائية والغزلان بألوان الطاووس وعبق المسك، والخيول البرية البيضاء والتماسيح الهادئة الماكرة، ووحيد القرن بعدوه الشاقولي والسعدان الألمعي والشامبانزي الذكي والغوريلا الوديعة والحمار الوحشي بلونيه الصافيين، مكتفيا بالسير الحر في الغابة الممتدة نهارا، وفي الليل يأوي إلى الكهوف الغائرة في القر، وأثناء الحر يصنع خيامه الخفيفة من جلود الماعز والضأن، ثم يقضي بعد ذلك ما تبقى من وقته في نحت أسلحة الصيد من أنواع الحجارة المختلفة يصنع منها الخناجر المنحرفة والسكاكين الحادة ورؤوس الحراب الماضية، كما يصنع من الخشب اليابس الأزاميل والعصي والنصال المسننة، ويصنع الدبابيس الدقيقة من العظام المختارة والعاج القوي والقرون الحادة. 
قصة قصيرة 11 -08 -2016  

 

egypttoday
egypttoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الخبز الأسفنجي المُحَلَّى الخبز الأسفنجي المُحَلَّى



الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الخبز الأسفنجي المُحَلَّى الخبز الأسفنجي المُحَلَّى



يتميَّز بطبقة شفّافة مُطرّزة وحواف مخملية

كورتني كوكس تُهدي فُستانًا ارتدته قبل 20 عامًا لابنتها كوكو

نيويورك ـ مادلين سعاده

GMT 03:24 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

"دولتشي آند غابانا" تُقدِّم عبايات لخريف وشتاء 2019
  مصر اليوم - دولتشي آند غابانا تُقدِّم عبايات لخريف وشتاء 2019

GMT 06:16 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

أغلى فيلا في تايلاند مقصد للمشاهير ومُحبي الفخامة
  مصر اليوم - أغلى فيلا في تايلاند مقصد للمشاهير ومُحبي الفخامة

GMT 09:04 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

ديكورات مستوحاة من الطبيعة للجلسات الخارجية
  مصر اليوم - ديكورات مستوحاة من الطبيعة للجلسات الخارجية

GMT 02:48 2019 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

أرخص 10 بلدان أوروبية لقضاء عُطلة صيفية لا تُنسى
  مصر اليوم - أرخص 10 بلدان أوروبية لقضاء عُطلة صيفية لا تُنسى

GMT 03:37 2019 الأحد ,16 حزيران / يونيو

7 محظورات و 5 نصائح لتأثيث غرف نوم مميزة للأطفال
  مصر اليوم - 7 محظورات و 5 نصائح لتأثيث غرف نوم مميزة للأطفال

GMT 22:42 2019 الجمعة ,31 أيار / مايو

البورصة الأردنية تنخفض 0.33 % في أسبوع

GMT 09:01 2019 الأربعاء ,29 أيار / مايو

توقعات ببيع 28 مليون سيارة في الصين بنهاية 2019
 
Egypt-Sports

All rights reserved 2024 Arabs Today Ltd.

All rights reserved 2024 Arabs Today Ltd.

egyptsports egyptsports egyptsports egyptsports
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon