طلال سلمان
منذ شهرين وحتى إشعار آخر يعيش الرعايا اللبنانيون في دوامة من الثرثرة خارج السياسة حول القانون الذي قد يعتمد، لتجري على أساسه الانتخابات النيابية، إذا ما سمحت الظروف المضطربة والأجواء المشحونة بالسموم الطائفية، بإجرائها فعلاً.
الطريف أن مثل هذه الثرثرة تُستعاد، مرة كل أربع سنوات، ومع اقتراب الموعد الافتراضي لإجراء الانتخابات، وكأنها حدث طارئ أو مباغت يسقط على الرعايا من حيث لا يتوقعون: أي قانون سيعتمد في هذه الدورة؟! ذلك أن لا شيء ثابتاً في أعراف الديموقراطية في لبنان، التي قد تكون «توافقية»، وقد تتحول «طوائفية» وقد لا تجري مطلقاً ويستعاض عنها بالتمديد للمجلس الذي غاب عنه النواب منذ دهر.. ومن عاد إلى بعض لجانه التي تناقش القانون العتيد للانتخابات الافتراضية اختار الفندق مقر إقامة، توكيداً لنظرية أن الديموقراطية مكلفة!
الأطرف أن العديد من السلطات ومراكز القوى في بعض الدول العربية تتابع الجدل الديموقراطي (وهو الأخ الشقيق للجدل البيزنطي) باهتمام بالغ، وبينها من يعتبره نموذجياً ويصلح كقدوة يمكن اعتماده في الدول التي لمّا تهتد أنظمتها إلى نعمة الديموقراطية.
وللجدل ـ عربياً ـ موضوعات أخرى مفتوحة بينها «حقوق الإنسان»، وقبل ذلك «الدول» وكيف تبنى وبمن، وحول التقدم وكيف السبيل إلى عالم القرن الحادي والعشرين، وموقع الديموقراطية من أنظمتها.
في هذا الجدل حول «الديموقراطية» فإن الطائفية تحضر كعنصر فاعل في المجتمعات لا يمكن شطبه أو تجاوزه... ومع الطائفية تحضر العشائرية والقبلية والجهوية، فكل تلك الآفات «مصالح» فعلية لها من يحميها باعتبارها بين ضمانات الديموقراطية: «دعه يعمل، دعه يمر».
ولأن للبنان تاريخاً حافلاً بالحروب الأهلية متعددة السبب أو الذريعة، وإن ظلت الطائفية والمذهبية بين عناوينها النافرة، فإن كثيراً من القوى السياسية في المنطقة العربية يريد التمثل به، والإفادة من «التجربة اللبنانية» التي يرون فيها «إنجازاً فريداً في بابه» يصلح لمعالجة مشكلة الأقليات بالديموقراطية التوافقية لاغية الانتخابات والاختيار الحر.
إن «التجربة اللبنانية» الفريدة في بابها تغري بالتعامل مع «الأقوام» من سكان هذه المنطقة بالعودة إلى جذورها وانتماءاتها الأصلية، فإذا هي مجاميع من الأقليات ليس لها أصل واحد ولا تاريخ واحد ولا أرض واحدة تعطيها هويتها... وبالتالي فلا أوطان وإنما كيانات أنشئت أو قد تنشأ بإرادة الخارج ولأغراضه.
كأنما شعوب البلاد الأخرى، غرباً وشرقاً، بدءاً بأوروبا وصولاً إلى الولايات المتحدة، من غير أن ننسى أستراليا وأفريقيا، فضلاً عن العدو الإسرائيلي، كتل صماء من أبناء العرق الواحد... وهناك من يتبرع من بين القيادات السياسية في لبنان لتدريس «الديموقراطية الطوائفية» في الدول الأخرى.
المهم، أنه مع كل دورة انتخابية يعاد «اكتشاف» الحقيقة الصاعقة وهي أن اللبنانيين ليسوا شعباً واحداً، بل ليسوا شعباً أصلاً بل هم مجاميع من أبناء الطوائف المقتتلة والمذاهب المتعارضة والأعراق المختلفة منذ بداية الخلق. وواضح أن معظم القوانين الانتخابية تصاغ انطلاقاً من هذا الاكتشاف: تُفصل طوائف عن أخرى، أو يلحق بعضها بالبعض الآخر لتعويض النقص في مواقع معينة... وهكذا يصير الجميع طائفيين، لا فضل لمتطرف على آخر إلا... بالفتنة.
لقد باتت «اللبننة» إنجازاً سياسياً خطيراً، يتجاوز بأهميته الوطنية والقومية، التقدمية والرجعية، الاشتراكية والرأسمالية. وهذا مكسب تاريخي لهذا الوطن الصغير.
.. ومع انتشار مناخ الحرب الأهلية في المشرق العربي يستذكر المعنيون دروس لبنان وكيف يمكن تفتيت الشعب الواحد إلى مجموعة من الأقليات التي تصادف إن وُجدت على أرض بالذات.
يُهمل التاريخ بوقائعه الثابتة، تهمل الجغرافيا، تهمل حقائق الحياة. يستحضر فقط الاختلاف في الانتماء الطائفي، ويتم تناسي واقع أن هذه الأقوام المتساكنة على أرض واحدة إنما بدلت أديانها وطوائفها بالأمر أو بالاضطرار مرات عدة، مع أن الأصل المؤكد واحد، وثمة روابط عائلية تضم بين جنباتها أبناء عمومة وأبناء خؤولة جدهم واحد، وافتراقهم ـ دينياً ـ قد تم نتيجة اضطهاد طائفي أو مذهبي، أو سعياً إلى الموقع الممتاز على الخريطة السياسية.
خطورة «اللبننة» في هذه اللحظة، أن دوائر القرار في العواصم البعيدة تخطط للإفادة من مناخ الحرب الأهلية الجاري تعميمه الآن في المشرق العربي، سوريا وبعدها العراق، واليمن وربما الأردن، بذرائع طائفية أو مذهبية أو عرقية، أو حتى باستغلال الخلاف بين البدو والحضر.
ومع السلفيين في مصر يتم إنكار حقوق الأقباط في الوطن الذي أعطوه اسمه وتاريخه، ويصل بعض المتطرفين إلى رفع عقيرتهم مطالبين بترحيلهم في حين يساومهم الحكم الإخواني على حقوقهم على دولتهم وفيها، وفي ليبيا تتم إثارة اختلاف الأعراق بين عرب وبربر وعبيد سابقين من الأفارقة وأسيادهم الذين «اشتروهم» كأرقاء، في زمن مضى.
ويمكن استخدام «البربر» و«الطوارق» وسائر المتحدرين من أصول قبائل أفريقية في الجزائر والمغرب وموريتانيا من أجل فتن قد لا تصل إلى حد الحرب الأهلية ولكنها تنفع في إلغاء الأوطان وضرب وحدة الشعب في كل منها.
[ [ [
هل من المبالغة القول: كلما حاضر أبناء الطبقة السياسية من أهل النظام الفريد في لبنان عن الديموقراطية يضرب الخوف رعاياهم من تفجير حرب أهلية جديدة عبر الانتخابات النيابية التي قد تبدل في الأشخاص ولكنها لم تقرب اللبنانيين يوماً من وحدتهم الوطنية، فضلاً عن حقهم في حياة كريمة في وطنهم...
أليست مفارقة أن تطالب الطبقة السياسية بحق المغتربين في أن يشاركوا في الانتخابات كناخبين، بينما هم هربوا إلى أقصى الأرض خوفاً من هذه الديموقراطية قاتلة الوطن والمواطنين؟
نقلاً عن جريدة "السفير"