طلال سلمان
تكاد «المشاهد» في غزة، اليوم، أن تكون نسخة طبق الأصل عن «المشاهد» التي تحفظها ذاكرة اللبنانيين عن الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز 2006: نيران الغارات الإسرائيلية تحرق البيوت في القرى والبلدات، تقتل الأطفال والنساء والشيوخ، تهدم المدارس والمؤسسات الأهلية، في ظل اطمئنان القيادة السياسية في تل أبيب التي اتخذت قرار الهجوم إلى دعم دولي (أميركي، أساساً) مفتوح، وإلى صمت عربي رسمي يكاد يبلغ حد التواطؤ، ومع ذلك كله: المراهنة على الحساسيات المذهبية لتبديل حقيقة المواجهة مع العدو الوطني والقومي.
الفارق الجوهري أن حدود لبنان مع سوريا كانت مفتوحة، وأن المدد العسكري كان متاحاً ومتواصلاً، وأن الذين أجبرتهم النار الإسرائيلية على ترك بيوتهم المهدمة والهرب بأطفالهم قد استقبلهم فآواهم إخوانهم في بيروت والجبل بأنحائه كافة والشمال فضلاً عن البقاع.. أما من بلغ سوريا فقد وجد الإكرام وأحس أنه بين أهله، وهذا كله غير متاح لأهالي غزة، حتى في معظم أنحاء وطنهم تحت الاحتلال.
لكن خطأ التقدير يتكرر في غزة، الآن، تماماً كما وقع العدو الإسرائيلي في حرب تموز: لقد افترض أن غزة المحاصرة من جهاتها الأربع، براً وبحراً وجواً، أخذاً بالاعتبار معبر رفح الذي تغلقه السلطات المصرية بالأمر الإسرائيلي، أضعف من أن تقاوم لأيام، فإن قاومت فسيكون «الثمن» باهظاً جداً يتجاوز طاقات أهلها الذين لا بد «سينتفضون» على «حكومتهم المقالة»، فينتهي الأمر وكأنه تمرين بالنار للجيش الذي لا يقهر: فلا السلطة في رام الله ستجرؤ على مواجهة القرار الإسرائيلي، ولا عرب الصلح المنفرد سيتحركون، ولا «الدول» ستدعو مجلس الأمن إلى عقد جلسة طارئة يتخذ فيها القرار الخطير بإعلان الحرب على إسرائيل!
... تماماً كما افترضت القيادة الإسرائيلية، وبتحريض واضح من الإدارة الأميركية، أن أياً من الدول العربية لن يتحرك لنجدة لبنان، باستثناء سوريا، وأن الحكومة اللبنانية ـ آنذاك ـ لن تنخرط فعلياً مع المقاومة في «مغامرتها» فتتصدى للاجتياح الإسرائيلي ومعه الضغوط الدولية والعربية، خصوصاً أنها لا تؤمن بالمقاومة المسلحة ولا تسلم باعتمادها سلاحاً لتحرير ما تبقى من الأرض اللبنانية تحت الاحتلال، فكيف والإدارة الأميركية «تقود» هذا الاجتياح وترفض القبول بأية هدنة ولو لحفظ ماء وجه أهل النظام العربي.
كانت إسرائيل تعرف يقيناً أن دول العجز العربي قد خرجت من ميدان فلسطين، كلياً، ساعية وراء سراب «الحل السلمي» بالتفاوض العبثي الذي ترفضه لأنها أقوى بكثير من أن تقبل أي تعديل في خريطتها المستحدثة كدولة يهود العالم.
وفي حالة لبنان كانت إسرائيل تفترض أنها تتفضل على دول العجز العربي بأداء مهمة لا يقدرون عليها وهي تصفية مجاهدي المقاومة وتدمير قواعد صواريخهم وإلحاق الهزيمة بهم خلال أيام قليلة (قدّروها بثلاثة)، بما يمكن القائلين بحياد لبنان وخروجه من ميدان الصراع العربي ـ الإسرائيلي من تحقيق أهدافهم، في ظل تغطية دولية وعربية تتولاها الإدارة الأميركية مباشرة بشخص وزيرة الخارجية آنذاك، السيدة كوندليسا رايس.
أما في حالة غزة فإن التقدير الإسرائيلي كان يفترض أن حرص حماس على «سلطتها» سيدفع بها إلى الصمت على اغتيال أحد أبرز قادتها المقاومين، الشهيد أحمد الجعبري، وستكتفي ببيان استنكار، وربما أطلقت بعض الصواريخ محدودة المسافة والفعالية، ثم تعود «الحكومة المقالة» إلى سلوكها «السلمي» تجنباً لتكرار الحرب الإسرائيلية كما في العام 2008.
ولعل إسرائيل أرادت، في جملة أهدافها من غاراتها الأولى، امتحان «الإسلام السياسي» الذي بات يتصدّر سرايات الحكم في عدد من البلاد العربية، أخطرها مصر، التي ربطتها عبر التاريخ علاقات استثنائية بغزة، أساساً، فكيف والحكم الآن «إسلامي» على مستوى القمة في مصر، وكذلك في غزة... من دون أن ننسى أن هذا الإسلام السياسي يتولى القيادة في تونس، وشارك إلى حد ما في ليبيا، وفي اليمن، كما في المغرب إلخ.
بل يمكن الجزم أن إسرائيل قد افترضت أن الحملة الدولية على إيران، المتهمة بتأمين المدد، سلاحاً وقدرات، لجماعات «المجاهدين» في غزة، وأولهم حماس ومعها «الجهاد الإسلامي» وسائر التنظيمات التي ما تزال تؤمن بالمقاومة وتمارسها، ستمنع هذه «الدولة المارقة» من الفعل... وبالتالي فإن قدرات المقاومين في غزة لن تيسر لهم الصمود، في موقع الدفاع، إلا لأيام قليلة، فكيف بالهجوم؟!
ربما لهذا يمكن القول إن القيادة الإسرائيلية قد فوجئت بقدرة المجاهدين في غزة على الصمود، بل والاندفاع إلى الهجوم بالصواريخ بعيدة المدى والتي طاولت تل أبيب والقدس المحتلة مجبرة رئيس الحكومة والقادة على النزول إلى الملاجئ، وتواصلت على امتداد الأيام الخمسة الماضية، فارتبكت وأخذت ترجئ هجومها البري المفترض... ثم اندفعت في اتجاه القاهرة توسط «الحكم الإسلامي» فيها، والذي لم يكن أقل ارتباكاً منها، فوعد ببذل الجهود من أجل «هدنة»... بعدما كان قد بادر إلى الاتصال بالرئيس الأميركي في واشنطن، فجر يوم الخميس الماضي طالباً منع إسرائيل من إحراجه أكثر، ثم أوفد رئيس حكومته إلى غزة، في حركة تضامن سياسي سرعان ما تبعه فيها الحكم الإسلامي في تونس.
واضح أن صمود المقاومة في غزة قد أحدث مفاجأة تتجاوز حدود التقديرات التي كانت سائدة حول نوعية سلاحها ومداه، مما أجبر الجامعة العربية على دعوة وزراء الخارجية العرب إلى جلسة طارئة، ليس ما قيل خلالها مهماً وجديداً ومختلفاً عما كان يقال في هكذا اجتماعات فحسب، بل إن القرار بأن يقوم عدد من هؤلاء الوزراء بزيارة إلى غزة في جولة تفقدية لضحاياها وحجم الخراب في مؤسساتها الفقيرة، يكاد يكون نقطة تحول في سياق المواجهة مع إسرائيل.
وهنا أيضاً يتأكد ما أثبتته الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز 2006: أن المواجهة، متى تيسرت موجباتها، والصمود، متى توفرت أسبابه، هما الطريق إلى ردع الجبروت الإسرائيلي، وإجبار دولة العدوان على طلب التفاوض على «هدنة» اضطرارية.
.. وها هم بعض قادة الغرب يضغطون على «أصدقائهم» العرب لكي «يتوسطوا» مع قيادة حماس للقبول بالهدنة، مما يزكيها ويقدمها على السلطة في رام الله التي أنهكها البحث عن تسوية لا تذهب بكامل مشروعيتها مع الاحتلال الإسرائيلي.
بين الذرائع التي يتوسلها الغرب للضغط على «أصدقائه» من حكام الطفرة الإسلامية، أن انتصار المقاومة في غزة، سيحتسب لمصلحة إيران و«إسلامها المجاهد» على حساب مشروعية حكم الإسلاميين، منفردين أو مشاركين، في أكثر من دولة عربية، أولها وأخطرها مصر: هل تريدون لبنان آخر في غزة، وربما في عموم فلسطين، بل وقد يمتد التأثير الإيراني إلى أقطار عربية، وإسلامية أخرى.. هل هذا ما تريدونه؟!».
واضح أن التحريض، هنا، يتضمن شحنة مذهبية واضحة....
وهنا تتضح المزيد من وجوه التشابه، أقله في النتائج، بين الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز 2006 وبين الحرب الإسرائيلية على غزة، هذه الأيام.
لقد اخترقت صواريخ الدفاع عن الأرض والأهل جدار المساعي الدؤوبة لتغليب الحساسيات المذهبية على موجبات التحرير وتأمين البلاد في وجه العدوان الإسرائيلي المفتوح.
... وهذه ضربة جديدة للنافخين في نار الفتنة المذهبية، في لبنان، كما في سائر أنحاء الوطن العربي والعالم الإسلامي..
ليس للعدو إلا اسم واحد هو إسرائيل، وهو هو في لبنان كما في فلسطين وكما في مصر وصولاً إلى المغرب، وفي المشرق عموماً وصولاً إلى بحر العرب.
والطائفية هي الحليف الأقوى للعدو الإسرائيلي في كل أرض العرب..
وها هو لبنان شاهد وشهيد!
نقلاً عن جريدة "السفير"