التفجير المدوي الذي هز بيروت مساء أمس، وتحديداً في موعد إفطار الصائمين، يكاد يكون بمثابة «إعلان حرب» على لبنان، عبر اختيار خاصرته الرخوة: المصارف! وهي أحد عناوين النجاح، في ظل أوضاعه الاقتصادية المأزومة، نتيجة الحروب التي تكاد تلتهم المشرق العربي، والتي يزيد من حدتها الفراغ المدوي في رأس السلطة وشلل حكومته المركبة فسيفسائياً، بما يعجزها عن القرار.
لقد اختار صاحب القرار باستهداف لبنان، في هذه اللحظة الحرجة، ضحيته النموذجية: واحداً من أكبر المصارف في بيروت، سبق أن نشأ التباس بينه وبين نواب «حزب الله» ممن وطّنوا مرتباتهم (بالليرة) فيه، نتيجة رعبه من قرارات الحظر الأميركية التي طالت نفراً ممن وصفتهم واشنطن بـ «تنظيم الخارج» وأسبغت عليهم نعمة «الإرهابيين»!
ومع أن الالتباس قد سقط عبر تدخل مصرف لبنان، وإيضاح حاكمه حدود القرارات التأديبية الأميركية، فإن منظمي التفجير قد اختاروا هدفهم بدقة: ضرب الاقتصاد اللبناني عموماً مع تحميل المسؤولية لـ «حزب الله»، بحيث يرى فيه اللبنانيون خطراً داهماً على أسباب عيشهم يضيف أثقالاً إلى أزمتهم الاقتصادية، التي بين أسبابها الضغوط السعودية بل الخليجية عموماً، والتي من تجلياتها منع رعاياها من القدوم إلى لبنان، للسياحة أو لمتابعة مصالحهم التي كانت من قبل تؤثر في الدورة الاقتصادية الداخلية.
ليس «مصرف لبنان والمهجر» إلا العنوان المباشر للاستهداف بالتفجير الذي تمّ مساء أمس عند بعض جدرانه، علماً بأنه أخطر بنتائجه من مجمل التفجيرات التي نفذها «داعش» في بيروت (الروشة) وفي بعض جنبات الضاحية الجنوبية المكتظة بسكانها بحيث تكون حصيلة التفجير موجعة.
أما ضحايا هذا التفجير النوعي، والذي اختير بعناية فائقة، وبتوقيت مدروس فتشمل لبنان بمؤسساته جميعاً السياسية والعسكرية والمالية والاجتماعية، أي عموم اللبنانيين.
إن الفراغ في السلطة، وليس فقط في رأسها، يغري من يريد إيذاء لبنان بأن «يضرب» أي هدف يختاره، ليس فقط لأنه لا يوجد فيه من يحاسب (بل لعل المسؤولين فيه يخافون بأن يكونوا هم موضع المحاسبة)، بل أساساً لدفع الوضع المأزوم نحو الانفجار، وعندها يسهل توجيه الاتهام إلى «حزب الله» بأنه المتسبب فيه، حتى لو كان هذا التنظيم الذي أضاف إلى رصيد لبنان، المتضرر الأول منه.. كما هي الحال اليوم!
إن لتوقيت هذا التفجير، المختار زمانه ومكانه وهدفه بعناية فائقة، أهمية قصوى: فليس أسهل، في هذه اللحظة، من تحويل «حزب الله» من ضحية إلى «متسبب» في الإضرار بأمن لبنان واقتصاده ولقمة عيش أهله.
وهكذا يتحول «حزب الله»، أيقونة المقاومة والتحرير، من مستهدَف بالضرر والعزلة، إلى متسبب في الأزمة الجديدة في البلاد والتي تعادل في خطورتها الحرب، خصوصاً وأنها تمس الجمهور اللبناني الواسع وليس أصحاب المصارف أو مناصرو «حزب الله» فحسب.
كذلك يتحول الاشتباه في أداء المصارف، ومبالغة القيمين عليها في التبرع بتجاوز نصوص القوانين الأميركية المتعسفة، إلى دليل إثبات ضد من استهدف إجراءاتها بالاعتراض أو بالنقد.
مرة أخرى يمكن القول إن هذا التفجير الذي استهدف واحداً من أكبر مصارف لبنان هو ـ بمردوده الفعلي ـ أخطر من أي تفجير ارتكبه رسل الموت المنتمون إلى «داعش».
ولم تعد قضية الفراغ في رأس السلطة، بل في السلطة عموماً، أي الدولة بمؤسساتها جميعاً، التشريعية منها والتنفيذية، مسألة سياسية بل لقد باتت مصدر خطر جدي وداهم على اللبنانيين عموماً.. وعلى دولتهم بشكل خاص.
ستتفجر الاتهامات غداً، وسيتركز العديد منها على «حزب الله»، وبذلك تقدم خدمة جلى لمن خطط وأمر بالتفجير واختار هدفه بدقة وخبث شديدين، إذ هي «تبرئه» من جهة، وتحول جريمته ضد لبنان جميعاً إلى اشتباك داخلي سيؤذي لبنان واللبنانيين جميعاً.
المطلوب: كثير من المسؤولية الوطنية، وتركيز الاتهام على المستفيد أو المستفيدين من هذه الجريمة الجديدة التي تصيب اللبنانيين كلهم وتزيد من مصاعب حياتهم في ظل «القطيعة» التي أعلنتها السعودية ومن معها من دول الخليج، و «الحرب المالية» التي تشنها عليه وزارة الخزانة الأميركية، والتي لا يتعب من محاولة تبريرها كل أصحاب المصالح المعلقة على الرضا الأميركي ولو على حساب مصلحة الوطن ودولته وأهله الصابرين.