يتبدى المشرق العربي، هذه اللحظة، جهاتٍ ومزقاً، تصطرع فوق أرضه طوائف وأعراق وأحزاب ومنظمات دينية جاءت من دول مختلفة، أو أنها تستبطن دولاً ذات أهداف متناقضة، لكنها تتقاطع بمصالحها عند أغراض مشتركة، أبرزها وأخطرها: إعادة صياغة أقطاره ـ بدولها أو من دونها ـ وفق هويات قديمة يجري تجديدها بالنار، أو هويات مبتدعة يحاول أصحابها أن يكونوا في صلب القرار حول مستقبل هذه البلاد.
البداية في سوريا التي يقسّمها «المحللون» و «الخبراء الاستراتيجيون» الذين تكاثروا كالفطر في ظل الأزمة الدموية المفتوحة إلى قسمين أساسيين وبعض التفرعات أو المناطق التي عليها انتظار البت بهويتها ومصيرها:
القسم الأول يضم ما درجوا على تسميته «سوريا المفيدة»، التي تضم المناطق الباقية تحت سيطرة النظام، والتي تشمل العاصمة دمشق وبعض أريافها امتداداً إلى حمص وصولاً إلى مدن الساحل: اللاذقية وطرطوس وبانياس الخ..
القسم الثاني يضم المناطق التي تشهد اشتباكات تقارب حافة الحرب، منذ أربع سنوات، وهي تمتد من غوطة دمشق صعوداً في اتجاه ريف حمص وبعض المدينة، وصولاً إلى ريف حلب، مروراً بمعرّة النعمان.
القسم الثالث يضم محافظات باتت خارج سيطرة النظام كلياً أو بمعظمها، ومنها الرقة أساساً، ثمّ دير الزور والقامشلي..
أما إدلب ومحيطها فقد «استقلت» عن النظام منذ ثلاث سنوات أو يزيد، وتمكنت من «الصمود» بفضل الدعم التركي والتسهيلات التي منحها، بالموافقة الأميركية، للمعارضات الإسلامية الأكثر تطرفاً ودموية، باستثناء «داعش» الذي يحاول الإفادة من تناقضات «الحلفاء» وتباين المصالح في ما بينهم.
على أن هذه «الخريطة الافتراضية» مرشحة الآن للتبدل والتغيير نتيجة التفاهم الأميركي ـ الروسي من جهة، ونتيجة التبدل الجدي الذي طرأ على موقف النظام التركي من الحرب في سوريا وعليها، وهو الذي مهد للقمة الثلاثية التي يُفترض أن تُعقد على دفعتين في موسكو خلال الأسبوع المقبل، والتي يشارك فيها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ثمّ ينضم إليها الرئيس بشار الأسد.
على أي حال، فإن الخريطة الافتراضية لتقسيم الميدان السوري ترتكز ضمناً على التوزع الطوائفي داخل سوريا، وإن ظل العنوان سياسياً.
في المقابل، ثمة جهات دولية وقوى محلية في العراق تتحدث عن مستقبل أرض الرافدين مرجحة تقسيم دولتها المركزية إلى ثلاث دويلات أو ولايات في إطار دولة اتحادية، بحيث يكون للأكثرية الشيعية «دولتهم» و«للسنة» دولتهم في الغرب والشمال، وللكرد دولتهم في الشمال (كردستان العراق).
كذلك ثمة كلام عن إعادة تقسيم اليمن إلى ثلاث دويلات: واحدة في الشمال (وهي يمن الإمام أحمد وعلي عبد الله صالح) وثانية في الجنوب هي ما كانت تدعى «جمهورية اليمن الديموقراطية» بعاصمتها عدن، مع احتمال اقتطاع حضرموت ليكون لها نوع من الإدارة الذاتية وتقام لحكمها هيئة تشارك فيها السعودية، ضمناً، لإطلالها على بحر العرب (ومن ثمّ المحيط) بما يُغني هذه المملكة (ونفطها) عن المرور الإجباري في الخليج العربي الذي يمكن لإيران أن تتحكم بالملاحة فيه في حال احتدام الصراع.
المشاريع التي يجري التداول فيها حالياً ترسم خرائط محتملة جديدة لمنطقة المشرق، يُلمس فيها الغرض الإسرائيلي بتقطيع أوصال ما كان يسمى المشرق العربي وتفتيته إلى كيانات عدة، لا يستطيع أي منها أن يعيش إلا بالاستناد إلى قوة دولية أو إقليمية ترعاه وتؤمن له شروط الحياة. والدول المؤهلة لتوفير هذا السند هي تركيا وإيران وإسرائيل، في ظل موافقة دولية ضمنية تشارك فيها روسيا والولايات المتحدة الأميركية، مع أدوار خاصة لبعض دول أوروبا وأبرزها بريطانيا وفرنسا وألمانيا.
عنوان المرحلة المقبلة، إذا ظل أصحاب الأرض غائبين أو مغيبين، يتجاوز التقسيم الذي فُرض على المنطقة في أعقاب الحرب العالمية الأولى وتحت عنوان اتفاقية «سايكس ـ بيكو»، مشفوعة بـ «وعد بلفور» الذي أعطى فلسطين لليهود كي يقيموا عليها دولة إسرائيل.
كان ذلك هو المطروح قبل إفشال الانقلاب على حكم أردوغان في تركيا. ولقد تبدل موقف أنقرة من النظام السوري، وأساساً من العلاقة مع روسيا ـ بوتين في الشهرين الماضيين، ونتيجة لهذا التبدل بات ممكناً عقد قمة في موسكو تجمع بوتين مع أردوغان على قاعدة توافقات استراتيجية، وأن ينضم إليها الرئيس السوري بشار الأسد على أرضية التبدل الجذري من الحرب السورية الذي طرأ على الموقف التركي.
وبالتأكيد فإن هذا التبدل سيحبط الاندفاعة السعودية بطليعتها القطرية التي كانت تموّل المعارضة السورية المسلحة وتدعمها بالسلاح الثقيل في ظل تواطؤ تركي وتحت رعاية أميركية.
ماذا ستفعل السعودية؟
إن تبديل موقفها من سوريا سيستتبع تبديلاً في موقفها من إيران التي تقاتل إلى جانب النظام السوري، كما ترعى «الحوثيين» وعلي عبد الله صالح وتمد قواتهما بالسلاح. وهي تفترض أن من حقها أن تُعامل على أنها راعية «السنة» إذا كانت مشاريع التسوية ستقوم وفق قواعد مذهبية، فتولج المملكة برعاية حقوق «السنة» في اليمن والعراق فضلاً عن سوريا، وتكون لها حصتها التي يُفترض أن تدافع عنها الإدارة الأميركية ومعها الغرب، ولا ترفضها طهران ومعها موسكو وبكين.
واضح تماماً أن إسرائيل ستكون المستفيد الأعظم من التحولات المختلفة التي يعمل على إنجازها في المشرق.
إن إعادة صياغة الكيانات السياسية في هذه المنطقة على قاعدة مذهبية (سنة وشيعة وعلويون وزيود) أو عرقية (عرب وأكراد وأقليات أخرى) يقدم الجائزة الذهبية للكيان الإسرائيلي القائم أصلاً على قاعدة دينية (يهودية) برغم أن الأهداف الفعلية لهذا الكيان تتقاطع مع المصالح الحيوية للدول العظمى أو الدول الإقليمية الكبرى: أميركا مع روسيا الآن، بغير أن يهمل توزيع الحصص بريطانيا والصين وربما فرنسا، فضلاً عن إيران وتركيا.
هذه تقديرات أولية. لكن القمة الثلاثية التي ستنعقد في موسكو فتجمع قادة روسيا وتركيا مع النظام السوري، وبمباركة أميركية معلنة، ستكون المحطة الأولى على طريق إعادة صياغة الكيانات السياسية في المشرق.
وربما كانت هذه القمة بداية توافقات دولية تحت الرعاية الأميركية الروسية، ومن ثمّ التركية، فالإيرانية في وقت لاحق، للتفاهم على رسم الخريطة الجديدة للكيانات السياسية في هذه المنطقة، وباستخدام العوامل الطائفية والمذهبية بديلاً من الهوية القومية التي كانت ـ حتى هذه اللحظة ـ تجمع الدول العربية في المشرق العربي.
على أي حال، وبغض النظر عن احتمال التوافق أو التعارض، فإن المستفيد الأول والأخطر من ابتداع هذه الدول، أو إعادة صياغتها على قواعد طائفية أو مذهبية، سيكون العدو الإسرائيلي.
وواضح أن التركي والروسي حريصان على مصالح «الأمن القومي الإسرائيلي»، تماماً مثل الولايات المتحدة الأميركية، وأن الخرائط الجديدة ستأخذ بالاعتبار هذا العامل الاستراتيجي.
وإذا صحّت هذه الافتراضات وأُنجزت هذه التوافقات، فإن فلسطين ستكون الضحية الأولى، إذ ستطوى صفحة نضال الشعب الفلسطيني من أجل دولة له على أرضه، أو حتى على بعض أرضه، ما دامت الدول ـ الأركان لهذا المشرق، أي سوريا والعراق، سيكونان «قيد البحث».
ومن محاسن الصدف أن هذه التطورات تتبلور، ولو جزئياً، في هذه الأيام وعشية عيد الأضحى المبارك، والأضاحي ستكون عربية.
وكل عام وأنتم بخير!