أثبت اللبنانيون عبر الانتخابات البلدية، إيمانهم بالديموقراطية، برغم أنف نظامهم الفريد في بابه، والطبقة السياسية الحاكمة والمتحكمة بأسباب حياتهم.
ذهبوا إلى صناديق الاقتراع فانتظموا طوابير أمام مراكزها، واحتموا بالساتر ليختاروا من شاءوا من المرشحين، سواء بصلة القربى أو بالاقتناع بأهلية مرشحيهم، ثم واصلوا حياتهم الطبيعية بهدوء وراحة بال بعدما أدوا «واجبهم» الانتخابي..
وهكذا أكدوا، مجدداً، أن العيب «فوق» وليس فيهم، وبالتالي فإن من يقاتل «الديموقراطية» ويحولها إلى مدخل إلى الخلافات والصدامات ومشاريع الحرب الأهلية، هم «الناس اللي فوق»، وأن «الرعايا» إنما قد اختلسوا لحظات فرح وهم يمارسون حقهم الطبيعي في اختيار من يرون فيه الكفاءة والاستعداد لخدمة مدنهم وبلداتهم والقرى.
طبيعي أن تكون العائلية وروح القبيلة قد لعبتا دوراً في خياراتهم، لكن كلاً منهم قد اختار من يقتنع بهم من «المرشحين»، ثم تلقى النتائج بالرضا والقبول وتصرف بموجب قاعدة «إن غداً يوم آخر»!
مع هذا فإن الطبقة السياسية الحاكمة والمتحكمة تهرب من «كأس» الانتخابات، وتلجأ إلى التمديد بعد التمديد للمجلس النيابي الذي دخل في الشيخوخة... ثم أنها تهرب من واجبها في انتخاب رئيس للبلاد، مع وعيها بأن أداءها هذا الواجب لن يفجر الحرب الأهلية ولا هو سيأخذ إلى الفتنة الطائفية، ولن يتسبب في أزمة دولية خطيرة يتواجه فيها الطاغوت الأميركي مع الدب الروسي مثلاً.
إن الانتخابات البلدية تفضح الطبقة السياسية وخيانتها لأبسط واجباتها في دعم الاستقرار وتعزيز الدولة باستكمال مؤسساتها الشرعية باختيار رأسها، بما يحصن الوحدة الوطنية بالرئيس الذي تستشعر طائفته بأن تغييبه افتئات على حقها المؤكد دستورياً والضروري لانتظام الحكم وخروجه من الغيبوبة نتيجة الفراغ في رأس السلطة.
خلاصة الكلام أن الشعب هو الديموقراطي وأن الطبقة السياسية هي المعادية للديموقراطية.. وموضوع الشغور الرئاسي مجرد نموذج للدلالة على أن أهل النظام هم المعادون للديموقراطية، ومن هنا تهربهم من القيام بأبسط واجباتهم.. انتظاراً لكلمة السر التي يفترض أن تأتي من البعيد، حتى لو تسربلت بالعباءة المذهبة، ونطقت الإنكليزية بلكنة بدوية!
* * *
خطأ لا يمكن الدفاع عنه..
شهدت القاهرة في الأيام القليلة الماضية أحداثاً في غاية الخطورة، وهي ما تزال ـ حتى الساعة ـ مفتوحة على المجهول: فقد اقتحمت قوات الشرطة والمباحث مبنى نقابة الصحافيين في القاهرة بذريعة القبض على زميلين لجآ إليها، ليتجنبا اعتقالهما مع استعدادهما للمثول أمام محكمة المطبوعات في الموعد المقرر لها. وعندما حاول النقيب وبعض أعضاء مجلس النقابة حماية زميليهما، متعهدين بتأمين حضورهما المحاكمة، متجاوزين الاعتراض المبدئي على «المطاردة» واقتحام النقابة، اندفعت السلطة في «حماية الديموقراطية» إلى حد اعتقال النقيب وأمين سر النقابة وأبقتهما ليلة في «التخشيبة».. وقد حن عليهما رجال المباحث فاستضافوهما في غرفة جانبية وليس مع الموقوفين بتهم شتى، أبسطها النشل وأخطرها ما يمس بالأخلاق العامة.
إن هذه الواقعة خطيئة وليست خطأً إجرائياً.. ولم يحدث أن ارتكب أي نظام في مصر، لا في العهد الملكي ولا في زمن جمال عبد الناصر، ولا حتى في زمن السادات، فضلاً عن عهد حسني مبارك وبعده حكم الإخوان المسلمين مثل هذه الجريمة بحق حرية الصحافة (ضمن ظروفها المعلومة التي تداري فيها غضب السلطان باعتباره «المالك» قانوناً، أو المتكرم على بعض حاشيته من أغنياء الانفتاح ونهب المال العام بالسماح لهم بإصدار صحف معظم رساميلها خليجية، وكذا محطات التلفزة..).
للتوضيح فإن الزميلين المطلوبين لم يرتكبا جريمة خطيرة تتطلب مثل هذه المطاردة الشرسة، كائنة ما كانت المقالات أو العبارات التي نشراها عبر أجهزة التواصل الاجتماعي. ليسا أعضاء في تنظيم سري يتآمر على النظام لإسقاطه، ولا يمكن أن يشكلا مصدر خطر على النظام، كما أنهما ليسا من «الإخوان»، ولا هما من تجار المخدرات وأصحاب السوابق.
إنها غلطة فاحشة تسيء إلى النظام وتصوره ضيق الصدر بالحرية، وغضبه السريع ليس شهادة له بالحزم بل بالرعونة وتعظيم ما هو عادي بطبيعته.
الأخطر: إنها إساءة إلى تاريخ مصر التي كانت رائدة في مجال الصحافة (والثقافة عموماً)، وقد أسهم صحافيوها في بناء المؤسسات الصحافية العربية، لا سيما في الجزيرة والخليج... بل كان لهم، أيضاً، دور مذكور في نهضة صحافة لبنان، لا سيما في الستينيات.
وبالتأكيد فإن القيادة في مصر التي تتبدى مرتبكة في كثير من قراراتها لم تكن بحاجة إلى هذا الخطأ الذي لن تستطيع الدفاع عنه.